أستأذن زميلي الدكتور حمزة السالم في استعارة العبارة منه ضمن مقالته المنشورة في جريدة الجزيرة بعنوان: «في شجاعة العرب». وقد حلل ضروب الشجاعة في ثلاثة أنواع: الجسدية والفكرية والعلمية، وخص العرب المعاصرين بالشجاعة الفكرية التي تتخذ بعض أشكال العنتريات مظاهر لها، دون أن يكون لهم نصيب من الشجاعة العلمية التي تقدمت بها الأمم التي اتخذتها مسار طريق لها.
وهنا أستعرض شريطاً من ذكريات الكليشات وعناوين مانشيتات الصحف وأخبار الإذاعة والتلفزيون التي تصدرتها العبارة المدونة أعلى هذه المقالة «نحن على أعتاب مرحلة مصيرية»، ونافستها أحياناً اللازمة الأخرى: «نحن أمام منعطف خطير». ويبدو أن «المنعطف الخطير» هو الأصل في الطريق، الذي تمثل «الاستقامة» فيه أو «المنعطف غير الخطير» الاستثناء. فخلال ستين سنة تبث فيها تلك الاعترافات بوجود الخطورة في الطريق، وصعوبة الحقبة الزمنية، ومآل العرب المتعلق بأزمتهم الحضارية؛ لم تزدد الأوضاع إلا سوءاً.
فقد عبثت الأيديولوجيا الاشتراكية بمصائر شعوب عربية عديدة، بدءاً من مصر ثم سوريا والعراق والجزائر والصومال واليمن الجنوبية، لمدة تصل إلى ثلاثة عقود، ثم استيقظت الأيديولوجيا الدينية، فعبثت ببقية الدول، بما فيها بعض الدول التي خربتها الأيديولوجيا الاشتراكية قبل ذلك. فهل حققت الأيديولوجيات المختلفة في المنطقة العربية أياً من أسس التقدم، أو بناء المجتمعات على مبادئ عنصرية، تمكنها من تحقيق ما حققته بعض البلدان الصغيرة الناشئة دون تاريخ ودون أيديولوجيا ودون عنتريات؟
أيها السادة، المواطنون الاسكندنافيون المعاصرون، وكذلك السنغافوريون، بل والصينيون (الذين كانت بلدهم إحدى ركائز الأيديولوجيا الاشتراكية) يرددون بعزة الآن: نحن فنلنديون أو سويديون أو دانماركيون أو سنغافوريون أو صينيون، دون أن يهتموا باتجاه الحزب الحاكم في بلدهم إن كان يسارياً أو يمينياً، أو خليطاً وسطاً؛ فما يهم الفرد والمؤسسات المدنية في المجتمع هو رفاه البلد، وتحقيق تنمية تتصارع الأمم من أجل التقدم في طريقها الذي لا يتسع إلا للجادين، ولا يدخله مطلقاً أصحاب الشعارات الجوفاء.
فما نصيب العرب من تعبيد الطرق في سبيل تلك الغاية العملية الشاقة؟
يكفينا استعراض مثالين موضحين لذلك، أحدهما في حقبة الخمسينيات، وما تلاها من عنتريات؛ إذ بدأت بخطابات عبد الناصر، وأصبح بعده الثوريون يدبجون الشعارات الرنانة، قبل أن يستسلموا للواقع، وينادوا أعداءهم التاريخيين بالأصدقاء ورفاق السلام. ثم يسير الرئيس الفلسطيني على خطى ذلك التيار؛ بأن أصبح يدعو لعدم عودة الفلسطينيين إلى ديارهم، بمن فيهم هو نفسه، حيث أعلن أنه يحق له زيارة قريته (صفد)، لكن دون أن يكون له الحق في الإقامة فيها.
أما المثال الثاني فيتمثل في تيار الأدلجة الدينية، التي هيمنت بقوة قبيل الربيع العربي، وبعد تكون الكيانات الجديدة فيه؛ إذ انبرى أحد رموز هذه التيارات الجديدة في مصر، وقال بكل حماس: «نحن سنعلن الجهاد من أجل الدفاع عن الرئيس...». طبعاً بفهم ضمني أن كل أولئك المعارضين هم كفار يجب عليهم الجهاد في سبيل صدهم عن النيل من الرئيس المؤمن، وحماية بيضة الدين.
فمتى ما تخلص العرب من حبهم المفرط للشعارات، والسير خلف المقولات أكثر من اتباع خطط العمل، يمكنهم - حينذاك - أن يكونوا لبنة صالحة في عمارة الأرض مع بقية شعوبها. لكن الطريق إلى تلك المرحلة صعب وطويل؛ ليست آخر مراحله الصدق مع الذات، وتشخيص الواقع قبل التفكير في علاج المعوقات. أما القفز على الواقع، ووضع شعارات توحي بالوصول إلى المرحلة النهائية، فيما المرء لا يزال في المراحل الأولى، فيشير إلى الولع بشعارات «المصير» و»المنعطف» و»سفينة النجاة».
- الرياض