يعد مصطلح «العلمانية» من أكثر المصطلحات المثيرة للجدل في الوقت الراهن حيث اختلط التعريف النظري مع التحقق الفعلي للمصطلح مما أدى إلى ظهور إشكالية العلمانية بشقيها النظري والعملي سواء في العالم العربي أو العالم الغربي. يرى الدكتور عبدالوهاب المسيري في كتابه العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (2002) أن مصطلح العلمانية قد شابه الغموض والإبهام من كثرة تضارب التعريفات التي تتعرض لهذا المفهوم. فعلى الصعيد الغربي، يعرف قاموس أكسفورد مصطلح «علماني» أو secular على عدة مستويات أولاً على المستوى الجزئي: بمعنى ينتمي للحياة الدنيا وأمورها أي غير كهنوتي أو غير مرتبط برجال الدين وكانت الكلمة تشير أيضاَ إلى الأدب والفنون غير المنتمية إلى خدمة الدين وكانت كلمة secular building تستخدم للإشارة إلى «المباني الغير مكرسة للأغراض الدينية» وثانياً على المستوى الكلي: بمعنى ما ينتمي إلى هذا العالم «الآني الزمني» كمضاد «للروحي» كما يعرف العلمانية «بأنها العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لا بد أن تكون لصالح البشر في هذه الحياة واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الآخرة» أما التعريف الشائع للعلمانية فهو فصل الدين عن الدولة أو Separation of church and state فيرى المسيري أنه يقع ضمن التعريفات الوردية للعلمانية التي حددت مفهوما للعلمانية ينحصر تطبيقه في الدائرة السياسية وفصل المؤسسات الكهنوتية عن مؤسسات صنع القرار ويعتقد المسيري بأن هذا التعريف للعلمانية هو تعريف قاصر عن الإحاطة بمدلوله. فالدال «علمانية» أضحى عاجزاً عن الإشارة إلى ما هو متحقق فعلياً على أرض الواقع ومن هنا يقول المسيري بفشل علم الاجتماع الغربي في تحديد تعريف جامع مانع للدال «علمانية» لكي يجعله يحيط بمدلوله على صعيد الممارسة. ونتيجة لهذا الخلط الكبير بين المفهوم والممارسة، انتهج الدكتور المسيري نهجاً جديدا في تفكيك المصطلحات والمفاهيم الغربية التي شاعت في الخطاب الفلسفي الغربي منذ عصر النهضة حتى أواخر القرن العشرين ومن خلال هذا النهج التفكيكي، سعى الدكتور المسيري لتجريد ما أسماه «النموذج الكامن» وراء المصطلحات الغربية حيث وجد أن غالبية المصطلحات الغربية - على اختلاف توجهاتها - تشي بمرجعية واحدة هي المرجعية المادية. وسواء تبنينا المنهج الماركسي أو المنهج الرأسمالي فإن النتيجة واحدة والقيمة الحاكمة والمهيمنة تظهي المادة وحسب. ومن هنا شرع المسيري في بناء نموذج تفسيري يمكنّه من فهم ما أسماه «العلمنة البنيوية الكامنة» في المجتمعات الإنسانية عامة والمجتمعات الغربية بشكل خاص. ومن ثمّ وجد المسيري ذاته في مواجهة علمانيتين تتحرك «إحداهما من خلال الأخرى» وأطلق على هاتين العلمانيتين اسم «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة». ويعرف المسيري العلمانية الجزئية بأنها «رؤية جزئية للواقع (برجماتية- إجرائية) لا تتعامل مع أبعاده الكلية والنهائية (المعرفية) ومن ثَمَّ لا تتسم بالشُّمُول. وتذهب هذه الرؤية إلى وُجُوب فَصْل الدِّيْن عن عالم السياسة وربما الاقتصاد، وهو ما يُعَبَّرُ عنه بعبارة فَصل الدين عن الدولة، ومثل هذه الرؤية الجزئية تلتزم الصمت بشأن المجالات الأخرى من الحياة، كما إنها لا تنكر بالضرورة وجود مطلقات وكليات أخلاقية وإنسانية وربما دِينية، أو وُجود «ما ورائِيَّات» و»ميتافيزيقيا»، ولذا لا تتفرع عنها منظومات معرفية أو أخلاقية، كما إنها رؤية محددة للإنسان فهي قد تراه إنسانا طبيعيا ماديًّا في بعض جوانب حياته (رؤية الحياة العامة وحسب) لكنها تلزم الصمت فيما يتصل بالجوانب الأخرى من حياته.» أما العلمانية الشاملة فهي «رُؤية شاملة للعالم ذات بُعد معرفيّ (كُليّ ونهائيّ) تحاول بكل صرامة تحديد عَلاقة الدين والمطلقات والماورائيات (الميتافيزيقيا) بكل مَجَالات الحياة، وهي رُؤية عَقلانية مادية تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحِدِيَّة المادية التي ترى أنَّ مركز الكَوْن كامن فيه غير مُفَارِق أو مُتَجَاوز له (فالعلمانية الشاملة وحدة وجود مادية) وأنَّ العالَم بأسره مكون أساسا من مادة واحدة لا قَدَاسَة لها» (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، المجلد الأول صـ220). وبناءً على ما سبق، قام الدكتور المسيري بطرح بديل عربي يتوافق - بحسب المسيري - مع الثوابت الدينية للمجتمع العربي وتمثّل هذا الطرح في مفهوم «العلمانية الجزئية» التي يراها المسيري حلاً وسطاً لا ينكر المرجعية الغيبية ولا يسمح بتغول المؤسسات الدينية خارج إطارها. ففي المجال السياسي والاقتصادي لا يوجد مانع من الاستعانة بذوي الرأي وأهل الاختصاص ولا يوجد داع لمشاورة علماء الدين في أمر لا ناقة لهم فيه ولا جمل وهنا يستشهد المسيري بحديث الرسول (ص) « أنتم أعلم بأمور دنياكم» الذي يقرر التمايز المؤسسي بين رسالة الوحي وشأن من شئون الدنيا. وفي هذا الإطر يميز المسيري بين العلمانية كرؤية شاملة للحياة تحدد مواقف الفرد وردود أفعاله إزاء كل مجالات التعامل البشري سواء في رقعة الحياة العامة أو الخاصة (وهي متحققة بهذا المعنى في الدول الغربية) وبين العلمانية كآلية للتعامل مع بعض معطيات الحياة التي لا مناص من مواجهتها بالتخصص وبالتمايز المؤسسي. ولمزيد من الإيضاح يحلل المسيري بنية التفكير العلماني الشامل في الغرب، فيجد المسيري أن كل المشاكل التي يعاني منها الغرب اليوم قد نجمت عن تلك الرؤية الاختزالية للإنسان كجزء من الطبيعة- المادة. ويتوقف المسيري عند العديد من اللحظات العلمانية الشاملة في العالم الغربي ويرى أنها كانت نتيجة للرؤية النتشوية للحياة Nietzschean worldview التي لا يكون فيها البقاء إلا لإرادة القوة Will to power. فالنموذج النازي في ألمانيا والفاشي في إيطاليا والصهيوني في فلسطين كلها تعبير عن الفلسفة العلمانية الإمبريالية التي ترى الوجود محكوم بقيم القوة والصراع بلا أية غائية telos، فالإنسان مادة استعمالية ينبغي توظيفها على النحو «الأمثل». والأمثل هنا لا تعني الأفضل بل تعني «الأكثر ترشيدا في الإطار العلماني النماذجي» بمعنى أن كفاءة الإنسان تقاس بمدى المردود المادي من وجوده واستعماله، فإن انتفى هذا المردود، اختفت قيمة الإنسان وأصبح وجوده كعدمه ومن هنا نستطيع أن نفهم السلوك النازي في التعامل مع اليهود والغجر والمعاقين وكبار السن ممن أسماهم النازيون «مخلفات الإنسانية» أو useless eaters أي أفواه بلا فائدة. وهنا تكمن قيمة الإنسان من المنظور العلماني الشامل كما هو متحقق في الغرب. أما في السياق العربي، فيرى الدكتور المسيري، أن مفهوم العلمانية الجزئية لا يدّعي أي رؤية شاملة للحياة بل على العكس يؤكد جزئية التعريف وجزئية تطبيقه على بعض جوانب السياسة والاقتصاد مع الالتزام بالصمت تجاه المرجعية النهائية للمجتمع ومن ثم يجد الإنسان مجالاً للتجاوز وتحقيق الثنائية الماورائية مثل ثنائية الإنسان- الطبيعة، الروح- الجسد أو الخالق- المخلوق. فوجود تلك الثنائيات - بحسب ما يرى المسيري - هو الضمانة اللازمة لتحقيق التوازن في الوجود الإنساني وللحفاظ على إنسانية الإنسان ومن هنا كان المسيري يسمي علمانيته الجزئية بالعلمانية الإنسانية أو العلمانية الأخلاقية التي تسعي للاحتفاظ بجوهر الإنسان ولا تنكر عليه بشريته وحاجته للروحي والميتافيزيقي.
essamok@hotmail.com
- الرياض