في أغسطس من عام 2010م نلت درجة ماجستير الآداب في تخصص الإعلام من جامعة الملك سعود، وكان عنوان رسالتي: المحتوى الإخباري للرسائل النصية القصيرة: دراسة تحليلية. وفي نوفمبر من عام 2011م صدر لي كتاب مطوّر -وليس منقول- عن الرسالة بعنوان (الإعلام الجديد في السعودية: دراسة تحليلية في المحتوى الإخباري للرسائل النصية القصيرة). ولا أدري إن كان من المدهش أن أقول إن بحثي شديد الحداثة قبل عامين يبدو اليوم -لي على الأقل- أدنى إلى البحث التاريخي في شقه التطبيقي. شيئا فشيئا بدأت تطبيقات مثل «فيس بوك» و»تويتر» و»واتس أب» تشكل بدائل أعلى كفاءة وأرخص تكلفة من الخدمات الإخبارية عبر الرسائل النصية القصيرة.
وفي تقديري أن هذه ظاهرة طبيعية لحقل لا يزداد إلا تحولا في وسائله، وهي ظاهرة تفرض على الباحثين الوعي بان الجزء الثابت من أبحاثهم سيكون الجانب النظري، أما نظيره التطبيقي فخلال أشهر من صدوره لن يبقى منه إلا الإجراءات؛ لكن النتائج ستنحصر قيمتها المضافة في البحث ذاته ضمن لحظته التاريخية التي يتناقص طولها باستمرار. والقبول بهذه المقدمة لن يغير في رأيي سوى رفع درجة الوعي بضرورة إيلاء الجانب النظري في بحوث الإعلام الجديد عناية اكبر من تلك التي حظي بها هذا الجانب في بحوث الإعلام التقليدي.
وبناء على ما تقدم فإني هنا اليوم أعرض لنقطتين أظنها الجزء الثابت من بحثي؛ الأولى مفهوم الإعلام الجديد، والثانية السياق النظري الذي اقترحه لتنظيم المعرفة العلمية في هذا الحقل.
مفهوم الإعلام الجديد «الإطار القلق»: في عموم ما راجعته تحت هذا المصطلح وجدت أنني أمام رؤيتين، بينهما شيء من الاختلاف. الأولى هي الإعلام الجديد بوصفه بديلاً للإعلام التقليدي، والثانية هي الإعلام الجديد بوصفه تطوراً لنظيره التقليدي.
الإعلام الجديد بوصفه بديلاً يمثل استقلالاً عن المسيطر، ليس الغربي فحسب، وإنما المحلي كذلك. وبعبارة ثانية، تعتبر هذه الرؤية أن الإعلام الجديد هو إعلام يتجاوز سيطرة المؤسسة الإعلامية التقليدية، المحكومة بدرجة عالية من الهيمنة السياسية أو الاقتصادية، لتستثمر التطور التقني الراهن لصالح إعلام متحرر، يعبّر عن الأفراد، والجماعات الصغيرة المهمشة (بيلي وآخرون، 2009م ص40-45، وتفترض أن وسائل الإعلام الجديد تكتسب مبررها الأساسي من تواضع مصداقية وسائل الإعلام التقليدية، التي تمثل نظاماً فرعياً يتأثر بانحيازه إلى القوى المسيطرة (عبد الحميد، 2009م، ص12-19. وتمثّل وسائل الإعلام الجديد -بحسب هذه الرؤية- مصدر المعلومات عن المشكلات الغائبة، والمساحة الأوسع لتعددية الرأي، بما يلغي فرص الهيمنة، ويبطل خيارات العزل والاستبعاد (المرجع السابق، ص268.269. بهذا المفهوم يمكن حصر الإعلام الجديد في الممارسة الإعلامية على المدونات، وبعض المقاطع على موقع (يوتيوب)، وبعض الصفحات على (فيس بوك)، ونحوها، وقطعاً فإن الرسائل النصية القصيرة التي تبث عبر خدمات تابعة لمؤسسات إعلامية تقليدية والنسخ الالكترونية للصحف الورقية والصحف الالكترونية والصفحات على «فيس بوك» والحسابات على «تويتر» والقنوات على «يوتيوب» الصادرة عن مؤسسات مماثلة، هي جمعيا خارج هذا المفهوم للإعلام الجديد. بعبارة أخرى، يمكن تحديد الإعلام الجديد من خلال موقفه الاجتماعي والسياسي، انطلاقاً من تحليل المضمون الذي تقدمه الوسيلة. ويتم طرح التحدي هنا من زاوية أن الإعلام الجديد يمثل فرصة لتقديم طرح إعلامي مستقل.
الجدلية المقابلة لهذا الطرح تنطلق من فهم مسألة الاستقلال، فمن هو المستقل، وعن ماذا؟!. قد تكون بعض المواقع هي تمثيل لمؤسسات كبرى أو صغرى، كما أنها دائماً مملوكة، أو على الأقل مستضافة من قبل، شركات معينة. مثلما أن الموقع الفردي قد لا يكون طرحه عموماً مستقل عن الطرح المهيمن. فضلاً عن أن للفرد، والجماعات الصغيرة مصالحها، مثلما للمؤسسات الإعلامية التقليدية، ولا شيء يثبت أن التعارض بينهما حالة دائمة. كما أن هذه الرؤية تجمع تحت مصطلح الإعلام تطبيقات متمايزة، يتخلى بعضها عن ما استقر من قواعد علمية ومهنية، لأن الاعتبار فيها للاجتماعي والسياسي أكثر منه للعلمي. والخلاصة أن الأخذ بهذا المفهوم سيجعل دائرة الإعلام الجديد متحولة بحسب تحديد القارئ لمفهوم الاستقلال، وتصنيفه للرأي المهيمن، وحكمه على نوايا المرسل.
الرؤية الثانية تنطلق من أن الإعلام الجديد مصطلح يعبّر عن التطبيقات الإعلامية المستفيدة من التطورات التقنية المعاصرة. وبهذا فالإعلام الجديد هو مرحلة تاريخية من تطور وسائل الإعلام. وهو ما يخضعه إلى ذات الإطار المعرفي الذي يحيط بوسائل الإعلام التقليدية، ويجعل منه امتداداً طبيعياً لها؛ أي أن الإعلام الجديد هو المرحلة الأكثر تطوراً -حتى الآن- على الصعيد التقني، وكل ما أضافه من مزايا عائد إلى استغلال التطور التقني ليس إلا. وفي الإجمال تطرح الرؤية الثانية تحدي الإعلام الجديد في قدرته على ردم الفجوة المعلوماتية من خلال إتاحة المعلومة والرأي على نطاق أوسع وبكفاءة أعلى، باستثمار الوسائل الاتصالية الحديثة.
الجدلية المقابلة لهذه الرؤية تأتي من أن ربط الجديد بالتقني تعني أن التسمية ظرفية، فالراديو في لحظة ما كان تقنية جديدة، وكذلك التلفزيون، كما أن التقنيات الجديدة اليوم ستصبح خلال سنوات قليلة تقليدية. وإلى هذه الملاحظة انتهى مشروع الحالة الانتقالية للإعلام الذي صدر في كتاب عام 2003م، عن معهد (ماسوشسيتس) الأمريكي، والذي قرر الباحثون فيه أن كل وسيلة إعلام، هي جديدة في لحظة ما، وهي دائماً في حالة انتقالية، وتطور مستمر. واعتبروا أن تسمية الإعلام بالجديد يجب أن تقصر على تطور ينتج نظاماً جديداً للاتصال، كما جرى عند اختراع الهاتف، مثلاً (صادق، (2008م)، ص49).
وليس الهدف المتوخى هنا حسم هذا الجدل لصالح إحدى الرؤيتين وإنما الإعلام بهما.
السياق النظري «التطبيق الحديث والنظرية القديمة»: تركز الجهد النظري الذي تناول الإعلام الجديد على فهم الفارق بينه وبين الإعلام التقليدي، دون أن يمضي إلى بناء قواعد مستخلصة من التجارب التطبيقية، ومن المرجح أن هذا بسبب حداثة تطبيقات الإعلام الجديد؛ الأمر الذي جعلني أقرر خلال بحثي الاعتماد على النظريات التي تم استنتاجها من تطبيقات الإعلام التقليدي، غير أن هذا أوجب تقديم قراءة مستجدة للنظرية التقليدية بما يتفق مع التطبيق الحديث. وقد اتخذت من «نظرية» مارشال ماكلوهان الأساس النظري لبحثي.
وبعيدا عن التفاصيل المطروحة في البحث فإني أركز هنا على ثلاث أفكار؛ أولاها أن (ماكلوهان) أسس على مقدمتين. الأولى أن أي تغيير اجتماعي هو نتاج لتغيير في تقنيات الاتصال؛ بل إن تحولات المجتمع ترتبط بطبيعة وسائل الاتصال أكثر من ارتباطها بمضمون الرسائل التي يتم بثها عبر تلك الوسائل نجم، 1998م ص73؛ فاختراع اللغة المنطوقة هو الذي ميّز الإنسان عن الحيوان، ومكّنه من إقامة مجتمع، جعل وجود نظام اجتماعي، وتطوره، ممكناً. والحروف الهجائية، ثم تقنية الطباعة، شجعت التخصص والتجزئة، ثم ساهمت الكهرباء في الاشتراك والتوحيد؛ أي أن وسيلة الاتصال تحدد طبيعة المجتمع، ونوع مشاكله، وسبل التفكير، وطرق العمل رشتي، 1978م ص373 - 377. وانطلاقاً من هذه القاعدة يحدد (ماكلوهان) تاريخ الإنسان بأربع مراحل؛ هي الشفوية، والكتابة، والطباعة، ووسائل الاتصال الالكترونية. وقد اعتمدت الشفوية على حاسة السمع، وتسبب هذا النمط في تقارب المجتمع، وساهم في جعل الناس أكثر عاطفية وحساسية. فيما حلت العين محل الأذن في المطبوع، وتراجعت الجماعة التقليدية أمام الفردية، وصار الواقع مجزأً ومتسلسلاً، وهي المرحلة التي أنتجت الاقتصاد الحديث، والجيش، والبيروقراطية، والقومية (المرجع السابق ص373 - 377).
إن هذه المقدمة تعود إلى رؤية أستاذ (ماكلوهان)، الكندي (هارولد إنيس)، التي تفسّر التطور الحضاري عبر التاريخ بتطور أدوات الاتصال، وان كل مرحلة تاريخية بدأت بظهور وسيلة اتصال جديدة، وأدت إلى احتكار المعرفة، ثم السلطة، ولم تنته إلا ببداية مرحلة استجدت بفضل ظهور وسيلة اتصال جديدة (الموسى، 1998م، ص29-35). وقد انطلق (إنيس) في فكرته من تحليل سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على الحالة الثقافية في كندا من خلال وسائل الاتصال، فهو أول من اخذ بمبدأ عدم حيادية وسائل الاتصال (ماتيلار وماتيلار، 2003م، ص193-195.
المقدمة الثانية التي انطلق منها (ماكلوهان) هي مفهوم الحتمية التقنية، وهو أحد المفاهيم المستنتجة من الماركسية الكلاسيكية. وكما آمن (كارل ماركس) بالحتمية الاقتصادية، فقد طوّر باحثون منتمون إلى الاتجاه النقدي في البحث حتميات أخرى (نجم، 1998م) ص65، ص73-74). ومن هؤلاء عالم الاجتماع الأمريكي، نرويجي الأصل، (ثورستاين فبلن) الذي صاغ مصطلح «الحتمية التقنية» في مطلع عشرينيات القرن الميلادي الماضي، وهي فكرة تقوم على مبدأين؛ الأول أن المجتمع والثقافة يتطوران بالاعتماد على الوسائل المادية، والثاني أن العناصر المادية تتطور بسرعة أكبر من نظيرتها المعنوية. وبالتالي فإن الحتمية التقنية تفترض أن التقنية مستقلة، وأن التقنية السابقة هي مقدمة التقنية الحالية؛ بمعنى أن التقنية تتطور بشكل مستقل، وتؤدي إلى تطوير اجتماعي، بما يجعل الأخير خاضعاً إلى حتمية تقنية (رحومة، 2005م، ص75-82، ص94). وقد طوّر (ماكلوهان) هذه الرؤية في ستينيات القرن العشرين، فأعاد قراءة تاريخ ا لاتصال الجماهيري وفقاً لها. فاعتبر أن اختراع الطباعة بدايةً لما عرف لاحقاً بالثورة الصناعية. وأطلق على المرحلة التي أعقبت عام 1900م عصر الاتصال الالكتروني. وأعاد إنتاج فكرة أستاذه بالقول إن استعمال تقنية جديدة يؤدي تدريجياً إلى خلق بيئة حضارية جديدة. ومن هنا ذهب إلى أن شيوع التلفزيون سيؤدي إلى جعل العالم قرية الكترونية (الموسى، 1998م، ص35، ص39-40). كما لاحظ أن كل تقنية اتصال تحتوي سابقتها، فالكتابة تحتوي الكلام، والطباعة تحتوي الكتابة، والتلغراف يحتوي الطباعة، والإذاعة تحتوي الهاتف، والتليفزيون يحتوي السينما، وهكذا (مرزوق، (د.ت)، ص124). وهو ما نجده حاضراً اليوم في الهاتف النقّال «الذكي» الذي يحتوي أشكالاً تقنية عديدة سابقة عليه؛ فهو يحتوي الإذاعة والتلفزيون والسينما والإنترنت والفيديو وأجهزة التسجيل.
الفكرة الثانية: قانون (ماكلوهان) الافتراضي للعلاقة بين الوسائل الإعلامية الجديدة، والتقليدية، إذ حدد أربع وظائف محتملة للوسيلة الجديدة حيال الوسائل التقليدية؛ أولها أنها تقوم بتمديد وسيلة أخرى قائمة بجعلها أكثر فائدة مما هي عليه قبل ظهور الوسيلة الجديدة، أو برفع قيمتها. والثانية أن الوسيلة الجديدة تلغي وسيلة قائمة، أو تقلل بشكل كبير من أهميتها. والثالثة أنها عند تفعليها بأقصى طاقة تعمل على موازنة وسيلة قائمة. والرابعة أنها تعيد إحياء وسيلة تقليدية غابت، أو تراجعت أهميتها بصورة كبيرة، قبل ظهور الوسيلة الجديدة (باكانيكو، 23 مارس 2010م).
وفي سياق تطبيق الرسائل النصية القصيرة عبر الهاتف النقّال، يمكنني القول في الوظيفة الأولى إنها مددت الاهتمام بالصحافة -مثلاً-، لأنها زادت من درجة الانتباه التي يمكن أن يحظى بها الخبر الصحفي، حيث يتلقى القارئ رسالة نصية قصيرة بخصوصه ثم يتحول لقراءة التفاصيل في الجريدة، ولو لم تكن هذه الرسالة لكانت درجة الانتباه للخبر الصحفي أدنى، وعلى نطاق أوسع فإن تكرار وصول الرسائل من الخدمة التابعة للصحيفة يعطي درجة انتباه أعلى لها. وفي الوظيفة الثانية يمكن القول إن هذا التطبيق أضعف الحاجة إلى المتابعة الدورية للصحف، أو لعموم الوسائل الإعلامية التقليدية؛ لأن المتلقي سيحصل على تنبيه ملائم عن طريق الرسائل النصية القصيرة. وفي الوظيفة الثالثة يمكن أن يكون تطبيق الرسائل النصية القصيرة موازناً لشيوع استخدام الصورة عبر وسائل إعلامية مقابلة. وفي الوظيفة الرابعة يمكن الحديث عن إعادة إحياء مفهوم المنادين في الأسواق، بصورة تقنية حديثة؛ فهم أيضاً كانوا يستخدمون كلمات محدودة للإعلام بشان عام (المرجع السابق). وهذا التحليل لعلاقة الوسيلة الجديدة بنظيرتها التقليدية، يمكن أن يعطي انطباعاً أكثر وضوحاً عما يمكن بلوغه بإعادة تطوير قراءة الأفكار التي قدمها (ماكلوهان)، وعدم حصرها في مقاصده المباشرة، ضمن لحظتها التاريخية. كما أن الرسائل النصية القصيرة ليست أكثر من مثال تطبيقي يمكن استبداله.
الفكرة الثالثة: أننا في فرض أن الوسيلة هي الرسالة، أمام أكثر من قراءة محتملة، ويمكن الاجتهاد تحت هذه القراءة بالقول إن المقصود أن إمكانيات الوسيلة تتدخل في تحديد صيغة الرسالة، وضرورة مراعاة اعتبارات التلقي التي تفرضها الوسيلة. أراد (ماكلوهان) -في رأيي- أن يقلل من الاطمئنان إلى إمكان الفصل النهائي بين المبنى والمعنى؛ بين الشكل والمحتوى.
وبسحب هذا المعنى على الرسائل النصية القصيرة عبر الهاتف النقّال وجدت أن دراسة العلاقة بين طبيعة الوسيلة وبنية الرسالة الإخبارية، هي اختبار للفرض؛ فالخبر الذي كان ملزماً بالإجابة على الأسئلة الستة، وليس له أن يقصر عن إجابة أي منها إلا لعدم توفر المعلومة، لم يعد قادراً -في الغالب- على فعل ذلك؛ بسبب المساحة المحدودة للرسالة النصية القصيرة، وطبيعة ظرف التلقي، وهما محددان فرضتهما طبيعة الوسيلة.
إذن، إدراج هذه «النظرية» هنا هو تجذير فكري لفهم الدور المركزي الذي تلعبه الوسيلة في فرض محددات الرسالة الإعلامية، والذي تمثل فيه الرسائل النصية القصيرة تطبيقا معاصراً. بعبارة أكثر إيجازاً، هو بمثابة إجراء تنظيمي لفهم المسألة. وما البحث العلمي إلا طريقة منظمة للتفكير؛ فبحثي كان ضمن إطار النظرية من الزاوية المشروحة أعلاه، لكنه لا يمثل بحثاً فيها. أي أنني أقترح على الباحثين في الإعلام الجديد الانتباه إلى أن الدور المركزي في تحولات عملية الاتصال الجماهيري من نصيب عنصر الوسيلة؛ فهي عندي اللاعب الرئيس الذي غيّر أدوار اللاعبين الآخرين. وهي المفتاح لسؤال: ما الذي تغير؟!
* حذفت المصادر اختصاراً
- الرياض