يطرز الشاعر فريد عبدالله النمر قصائده بخطوط جمالية آسرة، ومشغولات لغوية فاتنة، تنسج الذائقة من خلالها ولع القلب في تيه الشعر الذي يذيب المعاني ويصهر الشوق حتى تتجلى خلاصة البوح لامعة تثير دهشة المتأمل.
فللشعر في هذا الديوان «رعشة تحت الرماد» حضوره المبجل، .. ذلك المتمثل في فاتحة البوح «رشفة ومض مهداة» حينما يستدرك الشاعر في هذا الدخول رغبته العارمة في الغوص في أعماق الذات والسير في شرايين القلب والتماهي مع النبض الحالم، ليكشف لنا بعضاً من جماليات لغة الوصف ومفاتن القصيدة التي يطوعها النمر لتكون ذاتاً تنجع إلى الجمال، ولا تروم غير الوجد ولا تسكن إلا في أعالي قمم التوق، لتحلق القصيدة تلو الأخرى كأسراب نوارس تنهض من سيف البحر إلى فضاء إنساني رحب ومترامٍ.
المقدمة المستفيضة للديوان جاءت بلا توقيع، فلم يعد للقارئ أن يميز بين نثر يكتبه الشاعر وقصيدة تنهمر من شريان نابض بحياة مترعة بفأل الخلاص من منغصات كثيرة.. من هَمٍ يسكن وجدان الشاعر، وقصيدة راعفة كحدٍ شذرٍ من النوايا المبيتة في قتل تلك الأحلام وتواريها عن الوجود لأن الشاعر يحلم كعادته، والقصيدة لديه لا تلد إلا مزيداً من الأحلام التي لا يكتب لها البقاء:
«ذبلت مواعيد الشتاء بمعطفي
وتناسلت بردا على تشريني
حتى إذا هربت على غصون ملامحي
من أي حلم يا ترى تأتيني»
تغالب رسالة الشاعر فريد النمر في هذا الديوان صور الحكمة ومناجزة الواقع لأدق التفاصيل.. بل وكشف المخبوء الذي يسكن الذات، فلا يتورع أن يصارح القارئ بأمر ما ينغص عليه حياته ويعيد للمعطى الوجداني بعض مقوماته، فالحياة في نظره ليست مادة فحسب إنما هي جملة من المعاني التي يجدر فينا أن نتشبث فيها وننافح عنها وليس أجمل من الشعر أن يكون هو الذي يحمل هذه المعاني، لنسترشد فيها من الجمالي إلى الوصفي، ومن الحلم إلى العقل، ومن الخيال إلى الواقع، لكن يبقى الوعي في قصائده سيد الحضور.
فالشاعر النمر يتلو دائما تباريح الوجد اللاعج في هذه الثنائية التي تسكنه حينما يتماهى في وصف كائن يقابله في قصيدته لتراه مشغولا بل وشغوف في استمطار حكاية الجمال في حضرته أو في تجليات غيابة فليس أدق من ذلك ما ود في قصيدة «غيمات على فم البحيرة» حينما صاغ شعار الحياة وكأنه مركب تائه يبحث عن مرسى معنوي يقيل عثار حياته التي تسير في القصيدة نحو مجهول لا يرحم:
«مرفاي عينيك المضيئة وحدتي
هل تسمحي للعشق رسي سفينتي
لأداعب المرساة من بحري الذي
بالأغنيات يشد موجة غربتي
وأسرّح البحر الرقيق لقلبنا
فهواك وشم حكايتي بنبوءتي»
فالشاعر هنا، في هذا الديوان لا شك أنه ينشد الخلاص من منغصات كثيرة تسد منافذ التفكير ولا سيما حينما تقبل القصيدة إليه بجنون الرياح لتعصف به أنواء المقولة الشاكية، وتسدر فِيه أمواج عاتية، لتختلط المشاعر وكأنه في حالة حزن دائم على مآل كل حلم ينكسر، ليسعى في قصائده إلى تهيئة الذات لأحزان أكثر، فهو الموجع من طعان القصائد وهو المتأمل بوعي تام أن الجملة الشعرية لا تأتي إلا بمخاضها القاسي الذي ينسكب في معاني البوح حتى تراه وقد أجاد في رسم تفاصيل كل مشهد وجداني بصورة صادقة ومعبرة تعكس رغبته في قول الحقيقة.
كما عني الشاعر فريد النمر في جل قصائده في الحالة الإنسانية لا سيما ما هو وجداني عذب يقطر شهد الكلمات:
«دعوني كيف ما كان وداع الصبح
يا عشقا من التجويع يرهقني..»
فهمُّ الإنسان وقضيته مع ذاته هي أبرز ما عني فيها وتداولها كمشروع جمالي يحسب للشاعر ويميز تجربته الشعرية الجميلة، فلم يخض النمر في متاهة البحث عن أسئلة وحلول أليمة وقاسية إنما فضل أن يبقى مع ذاته ومع من يحب على الحياد مع الحياة العاصفة، فلا شيء أجمل من الشعر، فهو الذي نبؤك عن الكثير مما تروم في صور رامزة ومقولات مقتضبة وإشارات محكمة تنفذ إلى القلب وإلى العقل بصورة بهيجة لا تؤجج حالة البحث عن معنى أو رؤية أو موقف.
فهو الذي ينتصر للقصيدة حتى في أصعب الظروف، ليصوغ في الوجدان حب الحياة، وشعور الجمال الذي يبرز حتى في العناوين التي يختارها الشاعر لقصائده، فكل عنون له هوية القصيدة وله مكمن البوح المفعم بجماليات اللغة.. فلا أجمل من ذلك إلا حينما يعنون قصيدته الشاردة في متاهة الحب للحياة بـ «شيء أهدانيه السحاب» حيث تلا هذا العنوان إنثيال شعري عميق يجسد روعة الصورة التي يرسمها الشاعر للخلائق والأمكنة من حوله.
فالديوان بحق يكتظ بصور جمالية غاية في الإتقان، ويم تاح من نبع العذوبة رذاذ المعاني التي تأتي دائما للشاعر طيعة وسهلة القياد، فهو الذي لا يميل أو يحيد عن الشعر، فكأنما هو قد خلق من رحم قصيدة تفتش عن جمال الحياة، وسر الدهشة، وخلود الحب، وبقاء الأمل، وتجليات الأحلام الوادعة، وعشاق البياض، وضفاف الحياة الهانئة في وجدان طفل غر، وما إلى ذلك من رؤى وصور يرومها الشاعر، وهي في المناسبة عناوين للقصائد التي عني فيها الشاعر وجاءت على هيئة بانورامية مذهلة التكوين.
***
إشارة:
* رعشة تحت الرماد ديوان
* فريد بن عبدالله النمر
* القطيف - المنطقة الشرقية - الطبعة الأولى 2011م
* يقع الديوان في نحو (144صفحة) من القطع المتوسط