كثيرٌ منا نحن المثقفين والمفكرين والكتاب والأدباء والشعراء من يكتب.. (وثيقة موته)..، حتى تكون مرجعاً تاريخياً له. فهذه الوثيقة التي أقترح أن نكتبها جميعاً، تساعد بدقة على محاسبة النفس وجلدها تمشيا مع قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أول مسلم في أمتنا الإسلامية يأخذ كتابه بيمينه، كما قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الفاروق: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم). فلنحاسب أنفسنا يا أهل الثقافة والفكر والأدب والصحافة ! قبل أن يحاسبنا الله، ثم التاريخ، ثم المجتمع. ثم الضمير الجمعي.
تذكرت مقولة الدكتور زكي مبارك، الأديب المصري العظيم التي تقول : (حملت المنظار لأرى عيوبي، وما أكثر عيوبي). لقد حلقت فوق رأسي كل أنواع..(طيور الهم والوجع)..، وجعلتني جزءاً منها. جاء في كتاب..(آخر كلمات العقاد).. لمؤلفه عامر العقاد، حيث ذكر الأستاذ عباس العقاد في آخر كلماته التي قالها : (إنه خير لنا أن يكون منا مجازفون مهوسون من ألا يكون بيننا مجازفون على الإطلاق فيقتلنا حب السلامة وتحسبنا ناجين وادعين ونحن في الحقيقة نعرض أنفسنا لأرذل الأخطار. وأي خطر أرذل من استكانة النفس وتقلصها من قشورها!).
يقول : (ألدوس هكسلي): (التجربة ليست ما يحدث للإنسان بل ما يفعله الإنسان حيال ما يحدث له).
في يوم 10-4-1393هـ تلقيت خطاباً بتوقيع شخصي من سعادة الأستاذ الكبير والكاتب الجريء عبد الله عريف، وكان يومها أمينا للعاصمة كتب يقول لي: (بيد أنه يا ولدى وأنت حديث عهد بالصحافة تريد أن تسلك هذا السبيل وهو طريق مليء بالأشواك، وقد خبرته فأدمي قادمي عليك بالمطالعة الدائمة والكتابة المستديمة، ولا تيأس وتجلد فطريق النجاح صعب المنال ودونه خرق القتاد ومن صبر ظفر.....)، نشرت هذا الخطاب وغيره في مذكراتي السياسية وبالذات في كتاب/ فرصة الموت، مذكرات الدفتر الأول. الصادر عام 1426هـ. فرحت كثيراً بذلك الخطاب ونسيت الحكمة المأثورة التي تقول: (حب الظهور يقصم الظهور). وكان لهذا الخطاب تحول كبير في حياتي الصحافية. سأشرحها فيما بعد. فقد امتلأت رئتاي بالهموم والأوجاع والمنغصات.
وبسبب حماس واندفاع وطموح الشباب جعلني أخوض تجربتي، ومشيت في هذا البلاط الصحافي، وفجأة أطلق عليّ أنني وفي مراحل مختلفة، ..(كاتب شرس).. و..(صحافي مشاكس).. و.. (رد السجون).. وانتشرت هذه الألقاب والمصطلحات والتعريفات عني في المجتمع كانتشار النار في الهشيم. فمن تلك التجاريب الكثيرة والكبيرة التي خضتها في بداياتي حين خضت تجربة عنيفة وشرسة مع الأستاذ عبدالله عريف - رحمه الله - نفسه وهو المعلم والأستاذ الكبير والكاتب اللامع والمسؤول القريب لولي الأمر والمسموع الكلمة. ودخلت معه في معركة صحافية لم أكن أنوي أن أخوضها معه ولكن وجدت نفسي أمامه الند بالند، لذلك قلت في بعض لقاءاتي الصحافية أنني ولدت..(كبيراً)..، . لأنه اصطدم بي الكبار في وطني. نعم أدخلت تلك المعركة الصحافية مجبراً لابطلا مع الأستاذ العريف. بسبب أنني كتبت عدة مقالات صحافية نقدية قوية ضد أمانة العاصمة، وأوضاع شوارع مكة المكرمة والخدمات بها. واستفزت العريف القامة والمكانة. وكانت فعلاً نقدية وقوية. فغضب العريف مني غضباً شديداً. وأخبرني سيدي الوالد - رعاه الله - غاضباً أيضاً من ثورة العريف ضدي وقال لي: (أنت شايف نفسك قد العريف، ترى ما أنت قد العريف وسطوة هذا الرجل قوية فهو من الأقوياء في البلد وله مكانة وقيمة في الوطن، وأنت مبتدئ). وتطور الموضوع وطلبني العريف لزيارته في مكتبه بأمانة العاصمة وذهبت وكانت الأمانة تقع في ريع الكحل عمارة (بن ملوح) ودخلت عليه ودار حوار غير متكافئ معه فهو العريف صاحب الحنكة والخبرة والصولة والجولة، وأنا الصحافي والكاتب المبتدئ في نظره، وكنت يومها طالبا في المرحلة الثانوية. ختم الحديث بيننا حين قال لي: (ترى أنت شايف نفسك مصطفى أمين أو علي أمين، فقلت له رد علي يا أستاذ بمقالة في الجريدة فأنت الكاتب الكبير والخبير). ولم يعجبه رديّ وزاد انفعالاً ضدي. وخرجت بدون إذن منه وكان يحضر ذلك اللقاء المثير سيدي الوالد - حماه الله -، والأستاذ محمد أشقر وكيل أمين العاصمة - رحمه الله - والأستاذ عبد اللطيف مراد مساعد أمين العاصمة - شفاه الله - والدكتور خورشيد، مستشار العريف.
وذهبت إلى المنزل وفي اليوم التالي ذهبت لمدرستي لأني كنت طالباً في المدرسة العزيزية الثانوية، وفي الضحى فوجئت بوكيل المدرسة الأستاذ عبد الواحد طاشكندي - رعاه الله - والأستاذ عبد العزيز بنونه جاءا الفصل الدراسي ومعهما عسكري بأمر من وكيل إمارة منطقة مكة المكرمة حينذاك الأستاذ حمد الشاوي للقبض عليّ. وذهبنا إلى الإمارة وخرجت من الإمارة بعد توقيع تعهد بعدم التعرض ثانية لأمين العاصمة الأستاذ عبد الله عريف. وفي المساء ذهبت لجريدة الندوة التي كنت أكتب فيها وأخبرت أستاذي الكبير الأستاذ حامد مطاوع - رحمه الله - بكل القصة وكان ينصت لي ولم يقاطعني، وعندما انتهيت من سرد الواقعة نظر لي وابتسم وقال لي: ((لا تخاف يا أبو الزوز هذه البداية والقادم أحلى، اليوم أنت أصبحت من الكتاب اللافتين للنظر ما دام أن العريف هو أول خصم لك في الصحافة فلا تخاف، وخليك صلب وقوي كما عهدتك تكفون يا أبو الزوز !)).
*.. أقدسه، مثلما أحب وأقدس..*وجه أمي*.. رحمها الله وأسكنها الجنة. فوجه الأم لا يتغير في ذاكرة الإنسان، وهذا حال..*وجه الأب*.. فهو راسخ في الذاكرة والوجدان والعقل. ومن المواقف المضحكة بسبب هذه الحادثة أن بعض زملائي في الفصل الدراسي بمدرسة العزيزية الثانوية ومنهم العميد هاني محمود الشريف، والدكتور طلال الرفاعي، والمطرب الفنان المجهول يحيى لبان، والدكتور حسن داود حارس نادي الوحدة والأستاذ طلال محمد نور حابس ويوسف جعفر، وغيرهم كانوا يطلقون عليّ ومن باب الدعابة.. *يا مجرم*..،. وذلك في اليوم التالي لحضوري المدرسة وذلك بسبب العسكري الذي جاء لإلقاء القبض عليّ. ومازالوا يذكروني بذلك الموقف كلما تقابلنا في أي مناسبة.
يا سلام على هذا النوع من الرجال الذين يعلمون وبطرق شديدة القسوة من أجل أن نتعلم ونجتاز الامتحان. واليوم، وبعد أكثر من خمسة وثلاثين عاما، وعندما أحاطت بي وطوقتني الأحداث المؤلمة والمفجعة والأزمات القاسية، وأصابتني الأمراض في جسدي، وهرب الناس عني، وتضجر مني بنو قومي، تذكرت الأستاذ العريف، والأستاذ المطاوع - غفر الله لهما -. أنني أرفض أن أحشو دماغي بقراطيس ورقية، حتى لا أدخل في غيبوبة، وإذا دخلت حالة الغيبوبة، فهذا يعني أن أخضع لكل ما يملى عليّ. وهذا في ظني يعني أن إرادتي غيبت ووعيي سلب. هذه الحادثة أكدت لي أن إعلامنا في تلك المرحلة كان..(إعلام مهمة حكومية أو سلطوية)..، . أما اليوم فأصبح الإعلام ولقوته وتأثيره وانتشار الفضائيات أصبح فعلا ..(رسالة).. والفرق بينهما كبير.
ومنذ تلك اللحظة ومعطيات وإفرازات هذه الحادثة أظن - هكذا أتصور - أنني قد بدأت أكتب في مفردات وكلمات وأسطر صفحات..(وثيقة موتي)..، حتى وصلت لهذه المرحلة من البطء في الكتابة، وكأن..(المنية).. قد حانت أو اقتربت، وأنا في ريعان الشباب. ولكن المرض وجبروته وقسوة الأزمات والأحداث تقرب مسافة الموت لمثلي. مهما كانت قوة معنويات الإنسان.
كما كتبت الكثير من..(الشخبطات).. ودونت بها الأماني والتمنيات التي أطمع في كرم ورحمة ربي أن تشملني بها. تلك..(الشخبطات).. تطلبت تفهماً أكثر دقة وموضوعية وحكمة للظروف الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية، التي تدعم دائما الموقف السلطوي. إنني أعشق ماء النهر، لأنها تجري ولا تعود، فهي أجمل تعريف..(للتغيير).
ومنذ ذلك الحين ولم أكن أعلم أني بدأت فعلا في كتابة..(وثيقة موتي).. التدريجي وأزعم أن في نهاية مشوار الكتابة والتأليف والمشاكسة والمعارك والتحدي قد خدمت ديني ووطني ومجتمعي، ووفقت أمام ديني ومبادئي وقيمي وأخلاقي.
*.. التي ترافق الكتابة والإصلاح. ووقفت مواقف صعبة عادة ما يجد الإنسان نفسه واقفاً أمام طرفين متقابلين لامناص له من اختيار احدهما مع أنه لا يرضى بكليهما. ولا بد أن أقول: إني أملك تواضعا مثل تواضع..((العشب))..، وهو مغروس في الأرض.
أعتز، وأفتخر، وافتخر، كثيراً أنني كتبت ووضعت كتبا ومقالات خدمت وأخدم بها ديني، ووطني، ومجتمعي، ومسقط رأسي مكة المكرمة، وكلها كانت عبر الاجتهاد والخطأ والصواب. وأزعم انه سيكون لي مكانة ومكان تاريخي في وطني سوف تحجزهما لي كل إنتاجاتي الفكرية والثقافية والصحافية.
اللهم ارحمني وخفف عني الوزن يوم وزن الميزان. لأكون ممن خفت موازينه. اللهم اجعلني ممن يأخذون كتابه بيمينه. اللهم قدر عليّ وأنت القادر فإذا أردت شيئاً قلت له كن فيكون، فقدر عليّ أن تجعل ملائكتك يزفونني إلى الجنة، كما ستزف سيدنا أبوبكر الصديق رضي الله عنه إلى الجنة.
أدرك كمسلم صغير أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان قال تعالى: (لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) سورة محمد (4)، وتعاملت مع أفضل حكمة في الحياة وهي..(الصبر)..، فصبرت صبراً كما صبر سيدنا أيوب عليه السلام، وسيدنا أيوب نبي الله، وأنا إنسان عادي. وعملت بقوة على ترويض النافر والشارد، حتى لا يخرج مني..(الغضب)..، وحين أغضب استغفر الله بعد غضبي تمشيا مع قوله تعالى : (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) سورة الشورى آية (37).
يتبع
أديب وكاتب سعودي
البريد: Zkutbi@hotmail.com
الموقع: www.z-kutbi.com