شَّكَلَت ندرة المساحات وضيقها على الأرض معظم الأسباب التي أدّت بالإنسان إلى إقامة الأبنية «الطوابقية» بشكل عمودي، حتى الوصول إلى ما يُعرف بناطحات السحاب وغيرها من المنشآت والعمارات «النطّاحة»!!
ثم كدّ الإنسان وجدّ واجتهد، فصاغ النظريات الهندسية، وابتكر الوسائل والحلول التقنية فتوصّل إلى تركيب مواد للبناء قادرة على تحمّل منسوب الارتفاعات الشاهقة وتحدّي قانون الجاذبية، وذلك على حساب أعراف وقوانين الذوق والبيئة والجمال وما يعادلها من صفات ومواصفات أصبحتْ اليوم من الذكريات، ومن مرويّات «كان زمان» حيث تغيّرت مقولة: «الماء والخضراء والشكل الحسَن»، لتحلّ محلها مقولة: «البناء والفضاء والبُرج الحَسَن»!! وباتتْ بعض صفحات موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية تقتات وتعيش على العديد من هذه «الظواهر» «الخوازيقيّة» الهائلة الارتفاع! التي جعلتْ أطوال المآذن وقامات النخيل مجرّد عيدان صغيرة قصيرة، تحتمي منزوية على خاصرات وجنبات و»أقفية» العمارات العملاقة!!
ورغم وفرة المساحات الشاسعة في بلادنا، ورحابتها الأفقية على كامل ما يطوله ويتطاول إليه النظر، فإننا ما زلنا عن سابق تصوّر وترصّد وتصميم ونكاية، نجري لاهثين وراء رفع وبناء «الأبراج»، منخرطين بذلك في تقليد أعمى للغرب، الذي بنى وشاد منشآته مرتكزاً على ضروراته ومحيطه ومتطلباته. أما نحن، فقد غرقنا في ثقافة «الباطون المسلّح» والشقق الكبريتية المعلّبة.
ومنذ زمن، كانت المنازل والبيوت والدور والخيام متصالحة مع الأرض، ومتآلفة مع بيئتها، ومع كل ما أحاط بها من موجودات. وكانت على حوار دائم مع الطبيعة بمختلف أشكالها وتقلّباتها وتنوّعاتها: رملية، صخرية، جبلية، ساحلية، صحراوية... وكانت تترامى بحميمية، وتتراصف بألفة ووداد، حتى لكأن الحياة بنهج مسارها كانت «أفقية» متماشية ومنسجمة مع طبيعة أرضنا، واندياح المدى فيها، ثم أردنا اليوم باسم «الحداثة» أن نجعلها «عمودية»! مع أننا -وبامتياز- من ورثة «الانسياب الأفقي»، لكننا لم نستطع أن نرقى ونسمو بحبّنا للأرض، ومن تسخير فنون التكنولوجيا في سبيل إيجاد علاقة معها تكون أفضل وأكمل وأجمل.
يقول الكاتب العالمي «كافكا»: «لا ينمو الإنسان من تحت إلى فوق. بل هو ينمو ويتطور من الداخل إلى الخارج».
فيا أيها الإخوة في الرمل والتراب، وفي نطْح السحاب، آن لنا أن ننظر إلى المسائل والقضايا... وخصوصاً «الإعمار»، من «جوّا لَبَرَّا»، وليس من «تحت لفوق»!
وإذا كانت الارتفاعات، هي من مفردات وَهْم الهروب والابتعاد عن الأرض، وتلافي ملامسة التراب، مخافة «المثوى الأخير»، فإنّ الأجَل آتٍ لا ريْب فيه، على الجميع من: مهندسين، وملاّكين ومستأجرين، ولو كانوا في بروج مشيّدة، وبنايات مزجّجة، وعمارات بالحديد مُدجّجة!!
E-Mail: kahwaji.ghazi@yahoo.com
بيروت