في المقالة السابقة أشرتُ إلى أنّ انتخابات الأندية الأدبية تعرّضت لمشكلتين ابتداء، أولاهما: التحالف على طيّ حساسية الانتخابات، وثانيتهما: الوقوع في حالة الحساسية من الانتخابات نفسها، وهذا يعني أنّ الحساسية ظلّت موجودة -رغم الرغبة الشديدة في مصادرتها- لكنها انحرفت عن مسارها، فصارت حساسية من الانتخابات ومن أطرافها، تتسع وتضيق باتساع موقع الطرف وضيقه، وفي هذه الحلقة سأسلّط الضوءَ على مظهرين مهمّين من مظاهر هذا الانحراف.
المظهر الأوّل : تقويضُ الأطرافِ عدداً من سمات العملية الانتخابية، ومن ذلك -على سبيل التمثيل- إشاعتهم اعتراضَ اللائحة على إعلان المرشّح عن نفسه، أو عرض برنامجه الانتخابي، أو التواصل مع أعضاء الجمعية العمومية؛ لتقديم رؤيته، أو مشروعه، أو ما به يحصل على دعمهم وتصويتهم، ورغم أنّ لائحة الانتخابات في مادتها العشرين أعطت المرشّح الحقَّ في الإعلان عن نفسه من خلال الوسائل الخاصة إلا أن النسبة الكبيرة من أعضاء الجمعيات العمومية امتنعت من ذلك؛ خشية أنْ تعرِّض نفسها للطعن، فمرّت الانتخابات دون أنْ نشهدَ حراكاً ثقافيا، تتباين فيه الرؤى، وتتكشّف فيه القدرات، أو القدرات الورقية على الأقلّ.
هذا النمط من التقويض أفرغ العملية الانتخابية من معنى مهمّ، وجعلها حفلة بلا مناسبة في بعض المناطق، وحرم المشهد الثقافي من أن يتعرّف على أسماء جديدة، تمتلك القدرة الكافية والوعي الخلاق، بنسبة ربما تفوق ما تمتلكه عناصر معروفة.
هناك عدد من الزملاء حزموا حقائبهم منذ سنوات، وسافروا إلى أمريكا أو أوروبا للدراسة، وحين عادوا عادوا يحملون برامج عمل، ورؤية جديدة لإدارة النشاط الثقافي، لكنهم للأسف فوجئوا بأن العملية الانتخابية ستقذف بهم بعيدا؛ لأن تغييب شرط التعريف بالذات، وعرض البرنامج الخاص، سيفضي بهم حتماً إلى الخسارة، وسيعطي الناشطين في المشهد الثقافي المحلي حضوراً أكبر، لا بما أنجزوه من أعمال مقنعة في زمن مضى، ولكن بحضورهم الإعلامي والثقافي، الذي جعلهم مقدّمين أبداً على من يمتلك القدرةَ ولا يمتلك الحضورَ المسبق.
استمرار الأطراف في تغييب هذه المادة المهمّة، سيفضي بنا -لاحقا- إلى حالين: إما تدوير الأسماء في المجالس المنتخبة، بمعنى أنْ يظلّ الشخص حاضرا في عدد من المجالس المنتخبة، ولا يتغير إلا موقعه من هذا المجلس، ومدى قربه أو بعده من المناصب الأربعة (رئيس- نائب- إداري- مالي)، وإما فوز بعض الأشخاص بالانتخابات، لا لأنهم من أهل البيت، ولا لأنهم يمتلكون القدرة على إدارة النشاط الثقافي، ولكن لأنهم استطاعوا تنظيمَ أوراقهم بشكل سري، واعتمدوا على الدعم الخفي، الذي يتقوى بأواصر القرابة، والزمالة، والصداقة، ولعلّ هذا ما قصده د.حسن النعمي حين علّق في صفحته في الفيس بوك على خسارة د.لمياء باعشن والروائي عبده خال في انتخابات أدبي جدة، في ظلّ فوز آخرين بعيدين عن العمل الثقافي بمعناه الخاصّ.
في الحالين سينتهي بنا السعيُ الشاقُّ إلى نتيجة مؤلمة، تحلّ فيها الانتخابات محلّ الوزارة؛ لتمارس علينا عملية التعيين من جديد لكن على الطريقة الديموقراطية، أو لتفتح أبوابنا والنوافذ لكلّ من هبّ ودبّ، وشذّ وفذّ، وهذا ما تخوّف منه الكثيرون.
أعي جيداً أنّ عمل الوزارة قد انتهى -نظرياً- بمجرّد إقرار اللائحة متضمّنةً الموافقةَ على تعريف المرشّح بنفسه، لكنها -على المستوى العملي- تراخت عن تفعيل هذه المادّة المهمّة، فلم تسعَ -بما يكفي- إلى كسر الشائعة التي غيّبتها، بل لم تتحرّف إلى حثِّ المرشّحين على عرض برامجهم، ودعوتهم باستمرار إلى التواصل مع أعضاء الجمعية، ونقل هذه المادة عملياً من المؤخِّرة (آخر موادّ اللائحة) إلى الصفّ الأول؛ لتكون نقطة الحسم في فوز مرشّح وخسارة آخر.
هذا التراخي -من وجهة نظري- مأخذٌ كبير على الوكالة بوصفها الجهة المشرفة على العملية الانتخابية؛ لأنها تتحمّل -فوق مسؤولياتها المتعدّدة- مسؤوليةَ خلقِ سياقٍ عامّ لهذه العملية، ومسؤوليةَ تنقية الأجواء أيضاً من كلّ ما يعطّلها، أو يحجّم عطاءاتها، وأحسب أنّ هذه المادة من لائحة انتخابات الأندية الأدبية هي المادة الأهمّ في هذا السياق، وهي القادرة على إقناع أيّ طرف دخيل بضرورة مغادرة هذا المجال المهمّ...
لنا أن نتخيّل ساحتنا الثقافية لو تحرّف كلّ مرشّح إلى إرسال برنامجه الانتخابي إلى عشرات الأعضاء في الجمعية العمومية من خلال هاتفه الخاصّ، أو هواتف مساندة، أو بريده الشبكي، أو حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي، ولنا أن نتخيّل جمال ساحتنا الثقافية، ونحن نخرج من لقاء خاص بأحد المرشحين إلى لقاء آخر.
أكاد أجزم أن هذه التظاهرة ستجعل الأندية الأدبية على مسافة كلمات محدودة من مراكز الضوء، وأنها ستقدّم للوكالة مشاريع ثقافية كبيرة من الممكن استثمارها في المستقبل، وأنها ستضخّ في الأندية الأدبية أسماء جديدة، لديها من الخبرات النظرية ما يعود على الأندية بالجميل والجليل.
المظهر الثاني من مظاهر انحراف الحساسية: حالة التوجّس التي ملأت بعضَ المثقفين تجاه الوكالة، وجعلتهم مرتهنين أبداً لحالة من الضدية والمواجهة، ولقد شاعت في كتابات بعض المثقفين وتصريحاتهم أوصافٌ للعملية الانتخابية ولمسؤولي الوكالة، ماتت وهي في المهد صبية؛ لأنها لم تقدّم بين يديها ما يعطيها مشروعية الحياة، فضلا عن مشروعية الإحياء، وذلك من مثل: (الانتخابات مجرّد لعبة)، (الانتخابات ألعاب ثقافية غير مسلية)، (تعرّضتُ للخديعة من أعضاء المجلس)، (تعرضنا لمؤامرة كبرى من الوكالة)، وما إلى ذلك.
إنّ المتتبع لعديد هذه المقالات والتصريحات لا يجد فيها مستنداً يركن إليه، وإن وجد فيها من القرائن ما يجعله متردّداً بين حالين...
أنا هنا لا أثبت لأحد ولا أنفي، ولا أرفع ضدّ أحد ولا أترافع عنه، لكنني أنظر إلى الجميع بما فيهم الوكالة (التي أطلقت بعض التصريحات المساوية) على أنهم ضحيّة هذه الحالة من التوجّس، وكان الأولى بالمثقفين الذين أزعجوا الفضاء بمطالبتهم بالانتخابات أن يلجؤوا إلى اللائحة بدلا من التحاكم المعلن إلى اللا شيء، وكان عليهم أن يرضوا بما في اللائحة؛ كونها بضاعتهم رُدّت إليهم، وكان في المقابل على الوكالة أن تترك اللائحة تمارس الردّ على خصومها، وتتجنّب -ما استطاعت- التداخلَ معهم على الطريقة القديمة؛ فتجيز تصريحاً، وتعترض على تصريح، وتناكف طرفاً، وتحتفي بآخر.
هذان مظهران من مظاهر انحراف الحساسية في العملية الانتخابية، أفسدا علينا الاستمتاع الكامل بشعرية هذا القادم من بعيد، وجعلانا أمام تجربة نحتاج معها إلى تجربة أخرى؛ لنستلم الطريق الصحيح.
Alrafai16@hotmail.com
الرياض