جمعتني به الصدفة وربما الرغبة على مائدة الانبهار، النهار انتحى ركن الأفول، وأقبل الليل يشد رداءه، تشدو العنادل فيه ألحان السمر، فتغدو المدينة في حلمها الأثير.
الحوار يجتاح هدأة المكان، مضفياً على جلستنا عنفوان الوهج، فنمضي في دهاليز الجدل، كرّسته خمرة الصلبان وثورة المساجد، فكان المساس بالرموز باذخ الحضور، ترفده حرية مزعومة، تغيب حيناً، وتظهر حين يحلو لها الظهور.
كان يظنني إفريقياً لسمرتي، فأخبرته بأني من أبناء الخليج، تراجع منكمشاً دون أن يغلق قنوات الحوار، قد أضاءت جلستنا فتاة اقتتلت الدماء فيها، فكانت آية من الجمال الآسر، غمز حين رآني استرق النظر إليها قائلاً:
- راشيل يهودية.
انكمشتُ قد غزتني كل أثقال التراكمات، صرتُ أستجمع كرهي، وأوغل في إهمالها، فقال بعتب:
- لم ترحب بالحلوة ولو بكلمة.
اعتذرت بأنها لا تعرف لغتني.. ترجم لها أقوالي، فصارت تبتسم وتقول بين الدلال والسخرية:
- عربو بترول كثير.
ابتسمت بمضاضة لم ينتشلني منها سوى قدوم النادل، يضع أمامنا أطباق العشاء، أخبرتهم خلاله بسبب وجودي بينهم، فنطق بانتشاء مؤكدا حاجتي إلى مرافق سياحي، وفضل أن يكون امرأة، وأضاف بأن راشيل ستتدبر الأمر.. امتعض لرفضي اقتراحه قائلاً:
- أنت في بلاد الحرية، دع عنك التعقيد.
كان الطعام لذيذاً أعاقني في عدم إجادتي الأكل بالملعقة، فاستسمحته الأكل بيدي، وافق مشيراً إلى أن المسلمين يحرِّمون الأكل بالشوكة والملعقة.. نفيت ذلك وأخذت آكل بهما مع فيض حذر لازمني وضاعف إرباكي، كنتُ لحظتها مثار ضحك لم يستطيعا كبحه، فقال مخففاً حرجي:
- ما رأيك في راشيل؟
أجبته بأنها غاية في الجمال، ثم سألته:
- خطيبتك؟
صاح بلغته وهو يضحك، يكاد الطعام يطفر من فمه:
- نوووووو؛ شيز ماي جيرل فرند.
ثم سرد لي مواهبها.. تعشق السهر.. تجيد الرقص والعزف، ثم دنا مني كمن يفشي سراً بأن صوتها رديء، تململت هي في جلستها بغضب جعل الدماء الأرجوانية تزيدها حسناً. أثنيت بدوري على صوتها فبادرني:
- كيف تحكم على صوتها دون أن تسمعه؟
هبّت الدماء إلى وجهي خجلاً.. ابتسم فوراً مقرراً بأنه يمكن أن يدعها لي ليلة واحدة مقابل مبلغ من المال، مؤكداً بأن التجربة خير برهان، كانت تبتسم وتهز رأسها بالموافقة، فقلت له:
- هذا حرام.
أجاب بتبرم:
- كل شيء عندكم حرام.
ثم أضاف متسائلاً:
- من يحرم عليكم كل هذا؟
قلت:
- الله ورسوله.
قال:
- إن نبيكم محمد يمتهن النساء، يتزوج منهن ما يريد، ويعاملهن كالجواري، يستمتع بهن وهو متكئ على أريكته وأمامه الطعام، يضرب فيه بيده ثم يلعق أصابعه.
دبَّ فيَّ الغضب.. تماسكت مستشعراً أن الغضب لمن لا حُجة له.. عاودتُ الأكل بالملعقة، وتعمدتُ لعقها لألفت نظره، ثم غرزتها في طبقه.. اقشعر وثار سارداً كل الأضرار التي تنتج عن الأكل بملعقة استعملها غيرك.. وافقته على قوله، ثم استأذنته بالانصراف.. شدّني مازحاً، فخلّصت يدي منه وأنا أقول:
- إن محمداً منعني امرأة أشبه بالملعقة.
تبلّد الصمتُ فيه.. لم يجبني.. صرتُ أبتعد ونظري إليه، قامت هي لإدراكي.. اضطربت المائدة، وسقطت الملعقة محدثة رنيناً تنازعه ضجيج الناقوس ونداء المئذنة.
- الدمام