أنجز الشاعر التونسي خالد النجار في السنوات الأخيرة تراجم لعدد من الأعمال الشعرية والسردية عن اللغة الفرنسية.
ومن بين هذه التراجم كتاب على شكل حوار طويل مع الروائي الأمريكي الشهير هنري ميللر المعنون (اعترافات في الثمانين) وقد صدرت كل هذه الأعمال في سلسلة سماها المترجم (متون) ونشير هنا إلى أن النجار سبق له وأن ترجم لجان ماري لوكليزيو كتابه (ثلاث مدن مقدسة) قبل أن ينوبل العام الماضي.
هذا الكتاب (اعترافات في الثمانين) الذي أنجز ترجمته كاملاً بعد أكثر من ترجمة صدرت في المشرق هو (حوارات مع كريستيان دي بارتيا في الباسيفيك باليساد).
يصف دي بارتيا هنري ميللر عند لقائه به عام 1972 في مدينة الباسفيك باليساد بأنه (شاب في الثمانين من العمر). ودي بارتيا هو ناشر كتب ميللر المعروفة: مدار الجدي، مدار السرطان، عملاق ماروسي وغيرها.
كما يصفه بأنه عندما تطلع إليه كان (مقارناً بين صورته في الواقع وصورته في الخيال: إنه شبيه جنكيز خان وقد تحول إلى بوذا، فهو مزيج من نعومة وحزم، وهو مفارقة خلقتها الحياة. كل شيء يختلط عليّ في الآن نفسه: عندما ينتصب واقفاً كنت أجده قصر بقليل مما هو عليه العملاق ميللر في خيالي، ميللر كما يظهر في الأفلام، وعلى أغلفة الكتب والشهرة، كنت بكل بساطة قد التقيت بالحياة وكل شيء يفاجئك لدى ميللر.
ويضرب دي بارتيا موعداً مع ميللر في العام التالي، ليذهب إليه مع ولده من أجل إنجاز المواد معه يصفه بأنه (رجل متجدد باستمرار، ولديه عطش شديد للمعرفة، وللكراهية وللمحبة، ولديه أيضاً رغبة عنيفة لأن يكون كل شيء في اللحظة نفسها، رغبة لأن يعبر بكليته غايته الداخلية حتى يصل نقطة اللا عودة، إنه بوذا بمعنى آخر، فهو يعتقد أن الإنسان لا هو خيّر، ولا هو شرّير، النقطة التي يبلغها عبر حقيقته الداخلية وهي الحقيقة المطلقة لكل البشر).
ثم يقدم دي بارتيا فكرته عن هذه الحوادث التي يعتزم إجراءها مع ميللر، وسيوزعها على ثلاث مجموعات، الأولى حول طفولته، والثانية نوع من الرحلة خلال كتبه، أما المجموعة الثالثة من الحوارات فهي مكرسة لما سماها المحاور - بكسر الواو - للرسالة الميللرية، تلك الرسالة الطبيعية رسالة الإنسان ورسالة الإنسانية التي قلت عنها في كل ما كتبت إنها تسير على درب انهيارها.
وتتوفر الأسئلة على مدى كبير من العمق والفهم لتجربة ميللر، ولذا تأتي الأجوبة على غاية من الأهمية.
يسأله دي بارتيا عن الموت وكيف قال عنه (إنه الترف الوحيد الذي لم نشتره، والذي لم نستطع شراءه؟ فيكون جواب ميللر: الحياة مستحيلة بدون الموت، والموت مستحيل بدون الحياة، إنهما مثل التوأم، مثل الخير والشر، متلازمان لكن كثيراً من الناس لا يتقبلون الحياة وهم أكثر رفضاً للموت، والحال يجب تقبلهما معاً).
أما في المجموعة الثانية من الأسئلة حول كتبه فيسأله دي باراتيا عمّا سبق وقاله بأن (زمن الرواية الأكاديمية قد ولى، وأنك - أي ميللر - تعتبر بالنتيجة عن شيء آخر ما أدعوه أنا بالرواية الاتوبيوغرافية، رواية السيرة والترجمة الذاتية، وذلك في مقابل رواية مسرح عالم البشر الدوستوينسكية) ويأتي جواب ميللر بقوله: (هل تتذكر أنني في مدار السرطان وبالضبط في المقدمة، وضعت اشتهاداً لأمرسون يقول فيه: (في المستقبل سوف تتخلى الرواية عن مكانها وستحل الأعمال الاتوبيوغرافية محلها).
أليس هذا ما يحصل الآن حيث طغيان روايات السيرة على ما عداها، والملاحظة واضحة على ما يكتبه الروائيون العرب منذ ستينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا؟
هذا الكتاب متكامل لا يمكن الوقوف عند جانب منه أو عند أجوبة محددة بل يقرأ بتواصل واسترسال وكأننا نقرأ أحد الأعمال الروائية لهذا الكاتب الفذّ التي تحمل كماً من الطرافة والجنون واللذة.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7902» ثم أرسلها إلى الكود 82244
تونس