التعبير بلغة كاريكاتورية ضاحكة ومُنكهة بالنقد، هو ما يُصطلح على تسميته بالكتابة الساخرة أو الأدب الساخر، من يستطيعون التعبير بهذا النوع من الكتابة قلة، وأقل منهم أولئك الذين يجيدونها، هي نمط صعب قد يعجز عنه أكثر الكتاب احترافا، وإن بدا للبعض أنها تهريج كما توصم أحيانا، ومن اللافت في هذه الكتابة أن بعض من يُحسنها لا يكتبها، وبعض من يكتبها لا يُحسنها، وإذا فتّشْتَ عن أسباب ذلك ألفيت الأول يُعرض عنها تساميا لما يتمخض عنها من حرج، فيما يقبل الثاني عليها مستظرفا وهو لا يدري أنه ثقيل متطفل.
الشيخ علي الطنطاوي كان واحدا ممن كتبوا المقالة الساخرة بإتقان، كما في مقالتيه (أعرابي ونقد الشعر، وأعرابي في سينما) المنشورتان في (الرسالة) إبان تألقها وتوهجها، وفي موسوعة سيرته الذاتية بأجزائها الثمانية الكثير من تعابيره العفوية الساخرة، منها حديثه الساخر عن الصحافي والروائي المتصعلك معروف الأرناؤوط، الذي عمل معه إبان التحاقه بالصحافة، وفيه يقول: ((كان في المدرسة أجهل الناس بالحساب، فلما كبر عُني به حتى أتقنه، وبلغ من حذقه أنه حفظ عن ظهر قلب عدد أيام الأسبوع، وشهور السنة، وقطر الدائرة، وقاعدة المثلث، وصار يعرف أن ستة في سبعة تساوي سبعة وثلاثين، وفي رواية سبعة وأربعين، ولم يحقق أيها الصحيح، فالمسألة فيها قولان، ولكنه لم يصل إلى معرفة الباقي من الريال المجيدي بعد شراء علبة الدخان، فكان في كل مرة يشتري علبة يشتم البائع عشرين مرة حتى يجتمع ثلاثة من المارة فيعدون له القروش ويحلفون أن البياع لم يسرقه ولم يحتل عليه))، ومن كوارث معروف الصحافية التي لا يُمكن أن تُعد إلا ضمن خيانة أصول المهنة أو ميثاق الشرف الصحافي، ما وصفه الطنطاوي بأسلوبه الساخر فجعل منه مادة للإضحاك لا للإدانة، وفي هذا الصدد يصف زمجرة معروف الصحافية كلما قيل له ينقصنا لإتمام العدد ربع عمود أو نصفه يا أستاذ، لينطلق لسانه بأقذع الشتائم والسباب، وذات مرة قيل له العدد ينقصه عمود كامل، فانطلق يسب ويلعن..عمود كامل يا بن الكذا والكذا! فلما فرغ من شتمه وجد أن العمود فارغا ما ملأته الشتائم، وهنا تخيل معاهدة صلح بين الإنكليز والأفغان إبان الحرب بينهما، يقول الطنطاوي: وكتب موادها بنفسه، وزعم أن مراسل الجريدة في كابول حصل على نصها الذي ينشر لأول مرة، وبلغ من إحكامها أن أخذها مراسل هافاس فبعث بها إلى الصحف التي يراسلها فنشرتها، وعنها نشرتها صحف عربية وغير عربية، ولم تكتشف فرية المعاهدة إلا بعد زمن. هذا النمط من الكتابة الساخرة كثير في أدب الطنطاوي إلا أنه آثر التخفف منه من منطلق ولولا الشعر بالعلماء يزري» فتراجع عنه لهذا السبب وليس لسبب غيره، فخسر المشهد كاتبا كان من الممكن أن تكون له بصمة لافتة في هذا الفن الكثير كتابه القليل مجيدوه.
أحمد حسن الزيات المتصالح مع الجميع كان أيضا واحدا ممن كتبوا المقالة الساخرة بإتقان، ولكنه أعرض عنها لما قد تجلبه من حرج خاصة لرئيس تحرير مثله، والذين يتذكرون أو سبق لهم رؤية الصورة القديمة لزكي مبارك التي يظهر فيها أشعث الشعر، كان من أسباب تغييرها - فيما يبدو- المقالة الساخرة التي كتبها الزيات عنها، في تلك المقالة وصف الزيات صديقه مبارك كما بدا في تلك الصورة، وبعد أن نشرها بأعلى مقالته خاطب القارئ بقوله: ((أمامك صورة الدكتور زكي مبارك فتفرس فيها، ثم قل لي ماذا وقع في حسبانك منها، إن كنت قرأت له ما ألف وما كتب في النقد والمناظرة، فستظنه خارجا من معركة بولاقية كان فيها شد الشعور، ولكم الصدور، ونطح الرؤوس، وتمزيق الملابس، وما هذا الرواء البادي على وجهه وهندامه إلا خداع النظر أو فن المصور، وإن كنت قرأت له (التصوف الإسلامي) فستتخيله لا يزال مريدا للشيخ الطماوي الشاذلي يعكف على الأوراد، ويشارك في الإنشاد، ويحمل الإبريق، وينقر الدف، فهو أشعث أغبر، ضاو من الذكر والصوم والعبادة)). بعد هذه المقالة عمد الدكتور أو الدكاترة زكي مبارك كما يحلو له أن يدعى إلى صورة حديثة، بدا فيها أكثر تأنقا وهو يُصعر خده مبتسما كأودع وألطف ما يكون الرجال، ولمن فاته الاطلاع على الصورتين فليلتمسهما في أرشيف قوقل وستبرزان له كما تصورتهما قبل المقالة وبعدها.
الكتابة الساخرة في الغالب نوعان: كتابة ذاتية تجيء شعرا أو نثرا ضمن نقد الذات والسخرية بها، كما لدى جعفر عباس من المُحدثين وأبي دلامة من الأقدمين، وهذا النوع أكثر ما يرى لدى كتاب الشعوب المُعرقة في الحضارة، ولكنه نادر في أساليب السعوديين، وإن بدت مقاربته على استحياء لدى: غازي القصيبي، ومشعل السديري، وعبدالله الشباط، وعلي العمير، وعبدالله بن بخيت وغيرهم، وهذا النوع من الكتابة الساخرة هو الأصعب لكونه يتطلب لياقة نفسية عالية تفوق جلد الذات إلى التهكم بها، يقول جعفر عباس في إحدى مقالاته الساخرة: ((عندما شاركت في برنامج (على مسؤوليتي) الذي يقدمه دريد لحام عبر الإم بي سي، كان حوارنا حول ضعف الرواتب، فقلت لمحاوري من معي في الأستوديو وهم سعاد عبدالله وأمل عرفة وأشرف عبدالباقي لا يعرفون شيئا عن الرواتب، وأضفت - بدون مناسبة- أنني الوحيد بينهم الذي لا يضع مكياجا ويكتفي بالجمال الذي وهبه له الله)) وهنا أطلق أبو الجعافر مفارقته الساخرة فقال: ((انظر الصورة أعلاه بتجرد وحسن نية)) ومع أقصى درجات التجرد وحسن النية لا يمكنك أن ترى في صورته شيئا غير ملامحه الإفريقية الأصيلة، ومثل هذا التهكم بذاته أو بأحد أبنائه أو بابنته مروة أو بزوجه... هو ما لا يستطيعه كل أحد.
النوع الآخر: كتابة نقدية ساخرة، والسخرية تجيء في تضاعيفها ضمنا لا قصدا، وكتاب هذا النوع هم الأكثر في مشهدنا الثقافي، كأبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري، وحسن الهويمل، وعبدالعزيز السويد وغيرهم، والكاتب الساخر غالبا ما يكون مسخوطا عليه، لاسيما في المشاهد الأكثر ضيقا بالنقد، كما في مشهدنا المحلي، حيث النقد الاحتفائي المجامل لا المحاكم للنصوص، وبالطبع فمجتمع قريب عهد بالحضارة كمجتمعنا لا يتقبل الكتابة الساخرة بكل تجلياتها في نقد الذات والزوج والولد والجار والزميل والصديق كما لدى كتاب المقالة الساخرة، وهذا طبعا لا يبرر تلاشي السخرية من النقد في ظل وجود طرح متهافت يسخر بوعي وثقافة القارئ المُستهدف بكتابات هشة هي أحوج ما تكون إلى مبضع الناقد لا مراهمه.
الكتابة الساخرة كتابة نقدية في مضمونها ولكنها باتجاه واحد بحيث لا تقبل المناوبة، إذ كل كاتب ساخر هو ناقد بالطبع، ولكن ليس بالضرورة أن كل ناقد هو كاتب ساخر، وعليه، فهي موهبة متراكبة إلى جانب موهبة النقد، وهي تختلف عن السخرية الشفهية من وجهين: فهي وإن صيغت في نص ساخر إلا أن السخرية لا تعني العبثية، وحضورها وإن بدا كاريكاتوريا لاذعا إلا أنه لا يعفيها من الالتزام الأخلاقي بأدبيات الكلمة المسئولة، ولا تناقض هنا لأن السخرية بالذات خارج التصنيف، فالكاتب الساخر حر في إسقاط حق نفسه في التصون، وكذا من يَعلم موافقتهم الضمنية على تناوله لهم بقفشاته الضاحكة ووخزاته اللاذعة، ولكنه لا يملك ذات القدر من الحرية في السخرية بغيره إلا في حالات ثلاث، أولها: أن تكون سخريته بغيره في مقابل سخرية غيره به من باب المعاملة بالمثل، وثانيها: حين يكون المُستهدف بالنقد هو من سخر بقرائه من خلال سخريته بوعيهم وفكرهم وثقافتهم، كما في الكثير من الكتابات المتهافتة، وثالثها: حين تكون السخرية بالفعل والسلوك الخاطئين دون ذكر أسماء، وهذا أسهل أنواع السخرية وأسلمها.
الكتابة الساخرة عنصر مهم من عناصر التقويم والتثقيف والإصلاح، هي الوجه الباسم لعبوس أخطائنا وتجاوزاتنا واستقوائنا، وما لم يتحرر مشهدنا من الارتهان للمجاملة والنفاق الثقافي، وتحميل كل فعل كتابي وزر الحسابات الشخصية، فلن يتنفس هذه الكاريزما الجميلة، التي تستنشقها المشاهد الأخرى بعمق لطالما حرمنا منه، كما حرمت الصحراء رائحة اليود الجميلة.
almol7em@hotmail.com
الأحساء