نقر العصافير.. عنوان ودلالته سرعة الالتقاط لحَبه.. وربما أيضاً لحُبّه.. فما أن يهوي بمنقاره حتى يعلو بمنقاره في مشهد مألوف ومعروف لا أدري لماذا اختار شاعرنا الراحل هذا العنوان للديوان؟ أحسب أنه وجد في قصائده القصيرة المتلاحقة ما يشبع العصافير في تتابع نقرها.. الفارق بين العصفور أنه يأكل.. وشاعرنا بمنقار قلمه يعطي لنا زاداً شعرياً يشبع جوعنا.. هكذا أتصور.. مع القنديل في قناديله:
- أعرني من شبابك أولى محطات رحلتنا معه:
أعرني من شبابك يا حبيبي
حياة أستعيد بها شبابي
فما فنيت دوافعه بقلبي
ولا برحت نوازعه صوابي
وإني رغم أحداث الليالي
جديد العمر موصول الرغاب
ولكني بدونك بعض ذكرى
وفضل صبابة وصدى عذاب
الشباب يا قنديلنا ضوء يتوهج في أعماق الضمير حتى لمن جاوز التسعين إنه مرجله وديناميكيته التي لا تشيخ.. صحيح الحب نصف حياة.. ولكن إحساس بنقاء الحياة وطهرها وعذوبتها يبقى الحب مجرد عاطفة معرضة لرياح التغيير. (الزيارة الأخيرة) مصادفة أن لا نشهد جميعاً زيارته الأولى قد نلقاها وقد لا نجدها.. ندع الغائب لأهله ونتحدث عن ما بين أيدينا..
وأتيت بابك في الضحى
وسألته كعوائدي
ولبثت أنتظر الجواب
جرس يرن ولا مجيب
أثار صوت جرسه المتعاقب فضول الجيران الذين التموا من حوله يسألون:
ماذا تريد؟ ومن تريد؟!
تركهم لتغامزهم وتلامزهم.. ولضحكاتهم فيما بينهم ما بين شكوكهم وارتيابهم.. وعلى فمه جملة غير مبالية بهمزهم ولمزهم:
أنا عند بابك من أريد. ومن أكون؟!
وسألت عنك؟ وأين أنت؟ وما لهم يتعجبون؟
من ليس يملك غير قلب لا يعاب
من ليس يغني غير شعر أو كتاب
وبقي وحده رغم هذا الانتظار الطويل.. والطرق الثقيل على الباب وحيداً دون جواب. أمامي كم هائل من قصائد القنديل كلها تطوّف حول خيال هواء تارة تقترب منها وأخرى تبتعد عنها.. إنه يقوم أمام المشهد الوجداني أشبه بالمتفرج الذي لا يملك صنع اللحظة. (إنه الحب) و(عائدة) مقطوعتان أتجاوزهما إلى (غيلان الليل والمجنونة) غول! وجنون! شيء مرعب..
كفكفوا دمعها السخي وقالوا:
لا تخافي فإننا لك أهل
فاستجابت لقولهم واستكانت
واستكنَّت في حضنهم فهو سهل
وانقضى الليل وانقضى ما أرادوا
وتواروا كأنما الكل ظل
فاستفاقت لنفسها وأفاقت
فإذا الخصب في الحقيقة محل
واحد من مشاهد مفزعة وموجعة يفترش فيها الذئاب ضحاياهم باستدراج وإظهار حسن نية وطويلة، يتسيكنون حتى يتمكنوا ثم ينقضون كالوحش الجائع دون رحمة، المجنون الضحية والمخدوعة أفاقت على هول الخطأ منهما، والخطيئة من غيرها. وعلى وقع الجريمة جُنت فقدت صوابها وراحت دون وعي تذرع الأرض رواحاً وجيئة دون هوى، الحقيقة وحدها هي التي تقول:
فتعلم أن الحقيقة غول
وتعلم أن الفضيلة قول
وهذا ما عناه شاعر قديم بقوله:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ الثعلب
(قصة حب) و(دنيا الحب) لا مزيد لمعرفتنا جميعا بها.. فالحب قصة كاوية.. ودنياها قصة راوية تجمع بين القنوط والأمل.. والانتظار.. حاول شاعرنا أن يطربنا بعوده.. وأن يشنف أسماعنا بإيقاع ضربات أوتاره الشجية:
عازف العود هزنا
للهوى نضّ ما نضب
يا معيدا بعوده
بعض ما فات ما ذهب
الصدى رقّ رجعه
ذكريات لها سبب
والهوى حان عهده
صادق الوعد ما كذب
إن قلبي وما غنا
قد صحا اليوم قد وثب
عدد يوقع لحنه على مشهد عودة حبيب.. أمنية ما بعدها أمنية هذا الواقع النابض بالوتر.. والسحر يأبى علينا سويا أن نتوقف أمام ابنة ليل لم تصن عهدها.. ولم تصدق وعدها بحياة طهر ونقاء.. نتجاوز ابنة الليل إلى ذكريات الأمس واليوم.
ذكرت أمسها فحنّت إليه
مثلما حنّ للديار غريب
ورأت يومها خلاء بقفر
ليس فيه عود نديّ وطيب
كهلة تعشق الحياة ولكن
لم يعد للحياة فيها نصيب
قطار عمرها يقترب في آخر محطاته.. إلا أنها تحاول جاهدة أن تعود القهقري إلى محطاتها الأولى وهي القادرة أن تغطي تجاعيد وجه حياتها بطلاء كاذب ومزيف:
واستعانت بمالها.. وتوارت
خلف ليل في صبحه التكذيب
ومضى يومها الكئيب حزينا
طال في كل ساعة التعذيب
وابتدا وابتدت تقيس حياة
ملؤها الهم والضنى والنحيب
أخيراً خاصمها عقلها.. زجرها أن تستيقظ من فراقه المتصالي.. أن تدرك أن العمر لا يعود إلى الوراء مرة ثانية حتى ولو من باب التمني.
ألا ليت الشباب يعود يوماً
فأخبره بما فعل المشيب
هذا ما قاله شاعر آخر: ندع الهمسة جانباً فنحن نقضي عمر صخب لا هدوء فيه.. ونبحث عن جرعة حنان عسى أن نهدهد جوانحنا.
مع حنان شهر العسل يقول القنديل:
عيني مع النجم وفكري معك
والقلب ما جافاك أو ضيّعك
يا صورة في اللحظة يا نفحة
في اللفظ داعبت بها مسمعك
اسماً كأن السحر في نطقه
في كل حرف منه ما أرجعك
سامي.. حبيب القلب.. يا حبه
يا جنة عشت بها أتبعك
إنه يخاطب فلذة كبده بمناسبة عرسه يتصارع في داخله فرح زواجه.. ونزع رحيله وغيابه لقضاء شهر العسل..
يا غائباً بالأمس عني مضى
بالأمس.. باليوم رجا مطلعك
كأنما أنت برغم النوى
ما زلت جنبي مائلاً مضجعك
هيهات ينساك وينسى الهوى
من خاف منآك في ودّعك!!
رسالة حب أبوي تفض حناناً.. وتشوقاً لعودة غائب يقضي فرحة اكتمال عمره الحياتي.. البياتي.. ذات السواري، أغرودة عشق وما أكثر أغاريد عشقه..
صادفتها.. يا حسنها لحظة
أصدقها فيها لدى المصعد
هل أقول إنها صدفة خير من ميعاد؟ أم صدفة دونها الهجر والبعاد؟.. لا أدري.
قد لفَّها الساري بطياته
لف الذراع الخصر طوع اليد
هل انها هندية. أو سرلانكية؟ أم باكستانية وبنجلاديشية.. الساري ينفردون به عن سواهم:
ترنو بعين الشوق أعيانها
بجلاء لا بالكحل والأثير
تهت بها الجبهة مزهوة
بالوشمة الحمراء للمهتدي
الوشمة + والساري + هندية.. ماذا بعد أوصافه؟
قالت: رعاك الله أين الحمى؟
هل أنت من داري يا سيدي؟
أم أنت من أبناء صحرائكم؟
حيث الهوى الرقراق حلو ندي؟
فقلت: من قد هام في حبكم
لم يتهم اليوم ولم ينجد
اني كما قد قلت من دارة
الحب فيها كعبة الواجد!
إني إليك اليوم يا طفلتي
أقرب من ساريك والمجد
آليت يا حلوة أن لا أرى
سواك انني في مدار الغد
مريام ذات الحسن لا تنجلي
فالحب يروي القلب هذا الصدي
حوار افتتان بالحسن ينقصه الوضوح.. ولا تعوزه صراحة المكاشفة.. ينتهي لقاء المصعد بتنهدات متصاعدة وبيت نهاية:
انا انتهينا.. حيث لا تنتهي
أحلى أماني القرب للمبعد
يبدو ان المصعد توقف.. وتوقفت مريام واياه عند الكلام المباح.. ومن رحلة الهيام والألم إلى صرخة القلم المسكون في غمده:
اليراع الاصيل في أنمل الحر
على الدهر قوة، ومضاء
والمدى المستقر بين الدياجي
على هديه خطى وضياء
فعلى وقده تذوب الخفايا
ولدى نقده يغيب الخفاء
أطلقوه فقد أضر به القيد
وإنا بقيده ضعفاء
لقد اقتصر القلم بشيء من الألم.. المهم أن يكون القلم الذي يعنيه صوت صلاح واصلاح يبني ولا يهدم.. يبصر ولا يحسر.. ومع قلبه يبثه شكواه من نفسه:
متى أودع يا قلبي حماقاتي؟
مضيعا بدنيا الحب أوقاتي
الأوقات يا شاعرنا لا تضيعها دنيا الحب.. وإنما دنايا الحب.. الحب مطلوب لأن الحياة محبة.. يلتف القنديل مسلط ضوءه على ذاته:
أما أنا فأرى فيها بها أبدا
ذاتي وفني واحلامي وطاقاتي
فقد زحام حماقاتي منوعة
يا قلب حتى تناديني طيقاتي..
لقد ظلم نفسه.. وظلم قلبه أيضاً ذلك أنه ليس في الامكان أبدع مما كان.. محطات شعرية كثيرة لا تسمح مساحة الرحلة بالتوقف عندها. (وسكتنا) و(ليتني) و(قطرات) و(المارد والتربة) كذلك كنا و(أنسيت؟) و(التقينا) و(جنة المحبين) و(المصباح والكف المجروح) و(غرور نأباه.) و(الافلاك والانسان) و(ربما) و(قد قالها) و(الهدف النائي) و(غربة الشعر) ومحطات تنبض بمشاعر الحياة.. يستوقفني خطابه المتسامح المصافح (إني أخوك)
أنا لا ألومك أن أطلت اليوم عذلي
أنا لا أعيب الجهل منك.. قضى بجهلي
فافعل بجهلك ما أردت فأنت عندي بعض أهلي
بيني وبينك دائماً ما لا يزول دمي وأصلي
بيتان رائعان يختصران خطاب العفو (وثقافة التسامح كم نحن في حاجة إليها في علاقات بعضنا البعض حيث لا قطيعة ولا عقوق ومرة ثانية أشير إلى عنوان لم يكن لي الحظ في قراءتها (الاصغاء) و(واحد منهم) و(كذب الشعر) ؟و(الهروب والعودة) ولكن أين الهروب وأمامي بداية ليل بدأ ينشر رواقه الأسود فيحجب عن عيني الكثير من المشاهد والصور..
أتى الليل مسود الحواشي لمن بكى
وحيدا على دنياه تمطره حزنا
ليل شاعرنا ليس ليل سباق ولهو.. انه ليل التأمل والصلاة والتبتل والخشوع والمسكنة، انه ليس كغيره يغني لليله من أجل ليلى كما تعودنا جميعاً في أدبيات الشعر
أتى الليل للعاني المطيع لربه
قضى الليل موصول الحقيقة والمعنى
دلالة واحدة تكفي.. وللمراهقة نصيبها من شعره.. صوت مراهق بين مفترقين.. طريق يبهره بأضوائه. وآخر ينهره خشية عليه:
ينام أهلي وأبقى بينهم قلقا
نهب المشاعر والافكار والصور
أهيم والليل لا تفنى نوازعه
بالكون أفرح بالمنغوم من وتري
فلا تضيق حياتي دون أمنية
أحببتها، أو خيال صافه وطري
واستبيح بلا وعل بلا وجل
ما لذ, ما شذ من سام، ومن قذر
هذي حياتي.. فصونوها بلا لغط
بلا ضجيج من التأثير.. والأثر
تلك اعترافاته.. وتلك أيضاً تساؤلاته التي يريد إجابة عنها:
هل استنيم على ضيم يؤرقني؟
أم استقيم لدى شيم من الوضر؟
خذوا برفق بلا أمر خذوا بيدي
للدرب، بالدرب موسوم به قدري
ليت شاعرنا أبدل مقروءة (أمر) بمفردة (زجر).. الأمر مقبول.. ولكن حين يتحول إلى زجر وتوبيخ وتقريع ينتهي إلى الضد.. ولأن القصيدة تربوية هادفة استكمل الباقي من أبياتها:
إني أحن إليكم، بل أعيش فداً
للحب منكم. لكم يعاد به وطري
فإن عذرتهم فهذي غايتي وضحت
وإن عزلتم.. فإن النار من شرر
يا لا ئمي افيقوا من غوايتكم
إني المراهق بين النور.. والشور
البيت الأخير يحتاج إلى تصحيح في الصياغة والمعنى.. فالغواية كانت له وليس شاهدا.. الصحيح التجاهل.. والنور والسور متفقان معنى. النور هداية.. والسور هدي لا تعارض بينهما.. وأحسب أن المعنى يكتمل على هذا النحو..
يا لائمي افيقوا من تجاهلكم
إني المراهق بين النار والسير
النار حارقة.. والسير يطفي حريق الجسد.. وغواية العاطفة.. أقول هذا حتى ولو أنه يعني سير الناس وحكاياتهم..
ولأننا معاً نقترب من قطع المسافة.. سنمر مرور الكرام على بعض ما تبقى من قصائده.. صرخة) وأنها الدنيا.. (أيام تمر) و(اليراع الحر) و(الفراشة والشاعر) و(بانكان) و(وصفوها) و(فراشة النادي) و(وداع) و(قالت وقلت) و(عيد ميلادها) و(الحلم الأخضر) و(راقصة) و(ما أحلى المجهول) و(الأطياف والمرأة) التي أتوقف بكم عندها كي نطل عليها من خلال رؤيته ومرآته:
ألا ليت الهوى يصحو
بقلبي اليوم يا صاح
فقد غاضت صبابته
تلوع بفضل أقداحي
كدمعة تأكل وقفت
حبيسة طرفها الضاحي
كقطرة مزنة بقيت
على صخر بصحصاح
فحف بأيكتي زهر
تصوح غير فواح
وولى الحب مزهوا
فبت رهين اتراحي
وأقضي العمر الوانا
فمن ساح! إلى ساح!
هكذا تذبذب الحياة.. أملها في ألمها.. وألمها في أملها.. حقيقة ذات بعدين لا هي بالنجاح ولا هي بالفشل.. إنها مزيج من دمعة فرح ودمعة ترح أخيراً مع خاتمة ديوانه (في حياة)
إني بك اليوم، وما بعده
مضناك، مضناك فلا تبعدي
الأيام ذات الحسن لا تبخلي
بالحسن يردي القلب هذا الصدي!
فجاء بالبسمة أخاذة
ثغر لها ظمآن للمورد
يقول هذا الشعر، فارفق بنا
يا شاعري. وارق. ولا تجمد
أحسب أنه يعني بكلمة (وراق) (وارفق) حيث سقط حرف الفاء سهواء.. وفي الختام يقول شاعرنا القنديل
احلى اللقاء الحلو من عمرنا
ما جاء موقوتاً بلا موعد
انا انتهينا حيث لا تنتهي
احلى أماني القرب للمبعد
هل إنها مجرد صدفة (مريام) في ذات الساري والموشمة في مقطوعته (ذات الساري) و(مريام) في مقطوعة الأخيرة يقتربان اسما.. ويتوحدان شعراً ورسما.. هل أنه تقارب أم توافق؟ أو أنه مقصود في عجلة الشعر المتطابقة.. لست أدري.
وبعد.. بعد رحلة ممتعة مع شاعرنا الراحل أحمد قنديل أشعل لنا قناديل حب.. وحبه بكل ألوانه البيضاء.. والرمادية.. من خلال ديوان (نقر العصافير) ومن واقع شعره الرائع.. اشعر أن غذاء شعورياً ناضجاً قدم على مائدة المسافرين طردت عن بطونهم سغب الجوع.. وعن شفاههم جفاف العطش.. يرحم الله شاعرنا القدير القنديل.
***
أحمد قنديل
95 صفحة من القطع الكبير
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض ص. ب 231185
الرمز 11321 فاكس 2053338