إنني لجدّ متعجب لقرار اعتمدته قبل عدد قليل من السنوات عمادات الدراسات العليا في عدد من جامعاتنا السعودية، ألا وهو ضرورة أن يجتاز المتقدم لتلكم العمادات سواء من أراد دراسة الماجستير أو الدكتوراه، أن يجتاز اختباراً في اللغة الإنجليزية يعرف باختبار (التوفل) أو (بديل التوفل) حتى ولو كان المتقدم سيتقدم للدراسة في مجالي اللغة العربية أو الدراسات الإسلامية!!
وأذكر أنني عندما أبديت تمعضي وشبه اعتراضي ذات مرة على مثل هذا القرار لأحد عمداء كلية الآداب والعلوم الإنسانية في إحدى جامعاتنا الموقرة هو ووكيله، أكدا لي بأن مثل هذا القرار ليصب في مصلحة الدارس، الأمر الذي يجعله يوسع من دائرة بحثه، ويجعله منفتحاً على الدراسات الغربية التي لها الباع الطويل، والمناهج الموضوعية، والبحوث الرصينة في الدراسات العربية وكذلك الإسلامية!! وهذا لعمري اعتراف ضمني بالفشل الذريع الذي لحق رسائلنا الجامعية ودراساتنا الأكاديمية ومشاريعنا البحثية في جامعاتنا السعودية! عندها قلت سبحان الله! باع طويل، ومناهج موضوعية، وبحوث رصينة بالجامعات الغربية في دراساتنا العربية والدينية الإسلامية؟!
لا أخفيكم سراً، إن مثل هذه التبريرات ظاهرها الرحمة وباطنها (أشد) العذاب، من حيث قدحها في لغتنا والتقليل من شأنها والحط من قدرها، حتى ولو كنا نحن العرب من تخاذلنا في المحافظة على تراثنا، وعملنا بقصد أو بغير قصد على إضاعة لغتنا، وأيضاً أمور ديننا فذهبنا مرتمين في أحضان أعدائنا، مطأطئي رؤوسنا بحثاً عن أدق خصوصياتنا، ولسان عقولنا وتفكيرنا، وأدوات عزّنا، ومقومات نصرنا، نبحث عن كل ذلك في نتاج دراسات أجنبية وبحوث غربية تدس السم في العسل بدعوى الموضوعية والمنهجية والرصانة!
إن نظرة متأنية متأملة لتبرير سعادة العميد وغيره من المؤيدين لمثل هذه القرارات كفيلة بإدراك خطورة ذلك التبرير، إذ هو تبرير تأباه النفوس الغيورة، والفِطَر السليمة، تبرير قائم على قرار يقدح بشكل مباشر في لغتنا العربية الجريحة المكلومة، لغة القرآن الكريم.
أيها السادة المحترمون، يا أصحاب القرار وصنّاعه في جامعاتنا السعودية الموقرة، لتعلموا أنكم بمثل هذا القرار لتعملون على طمس هويتنا طمساً، وتزيدون من تلك الفجوة بيننا وبين لغتنا كما أراد وخطط لذلك أعداؤنا.. ارتكوني أقترح عليكم اقتراحاً علّه يفيدكم في تهميشكم للغتكم، بل ويعجّل لكم القضاء عليها؛ لماذا لا تعملون على إلغاء أقسامها من جامعاتكم، وموادّها من مدارسنا.. بدلاً من هذا التعقيد وهذا الحد غير الصريح من قبول الدارسين المقبلين على الدراسات العليا في اللغة العربية خصوصاً؟!
وإنني لأستنكر على أولئك الذين يدّعون الدفاع عن اللغة العربية، ويتشدقون ملء أفواههم بضرورة المحافظة عليها من أكاديميين ورؤساء أقسام وكتّاب وأدباء ومثقفين تعج بهم الساحة وحتى مجالس الشورى، وكل من له صلة بهذه اللغة مكسورة الجناح، كيف بهم يُمرِّرون مثل هذه القرارات بصمت مطبق، وتغاضٍ مذل؟! هذه القرارات التي هي شرخ واضح في جدار لغتنا، وفي وطننا وطن اللغة العربية!!
إن حلاً مزعوماً مفاده توسيع دوائر البحث، والانفتاح على الدراسات الغربية الموضوعية الرصينة، يقوم على إتقان اللغة الإنجليزية واجتياز اختبارها بنسب عالية (400) نقطة للماجستير، و(500) نقطة للدكتوراه، في ظني أنه حل يهدف إلى التعقيد والتعطيل، أكثر من المساعدة على توسيع وتفتيق الأفهام والتطوير على حد ما يزعمون، أو هكذا يتوهمون؛ وإلا فالكتب المترجمة إلى العربية في مجالي العلوم العربية والدراسات الإسلامية متوفرة إلى حد ما، ويمكن الحصول عليها للاستفادة منها؛ فلنعمل على تنشيط ودعم حركة الترجمة كما كان يفعل الأولون؛ لكنها للأسف الشديد الحرب الضروس، والغزو الشرس على لغتنا لغة الذكر الحكيم، التي نحن من يعمل على تأجيجها، ومدّها بكل آلات التدمير الشامل، وبيد أبناء جلدتها، وصدق المثل العربي القائل: (بيدي لا بيد عمرو)!
فهل يعي القائمون على أمر الدراسات العليا ومَن وراءهم في جامعاتنا مثل هذا الأمر الجلل قبل أن ينمحي لسانُ هويتنا، وتنطمس معالم ديننا، وتزول بزوالهما أدوات حضاراتنا؟
وإني لأناشد عبر هذه المجلة الثقافة العتيدة مجلة اللغة والفكر والأدب، أناشد كل الغيورين على لغتنا العربية، وعلى رأسهم معالي وزير التعليم العالي، وأمثاله من أهل القرار وصنّاعه، أن تكون لهم الكلمة الحق، والقول الفصل، إنقاذاً للغة القرآن الكريم والذكر الحكيم، لغة الفكر والأدب والحضارة، من كل فكر دخيل، ولسان أعجمي بغيض.
هذا والله من وراء القصد،،
ياسر أحمد مرزوق-جدة
Y.A.M_200@hotmail.com