إنّ نصف الجنون العربي، عبر التاريخ، بسبب المرأة، لا لجمالها الخارق، ولا لرهافة إحساسنا الفارق،
ولكن... (كُلُّ ممنوع.. يجنّن)!
......................
ومن المهم - في سياق المحاكمات اللغويّة الثقافيّة - التنبّه إلى أنه قد ظَهَرَ في العصر الحديث اهتمامٌ لافت بقِيَم ما أنزل الله بها من سلطان، ولا كانت من القِيَم العربيّة بمكان. النَّسَب - مثلاً - والانتماء القَبَلي، المبالغ فيه هذه الأيّام، هو ممّا لم يعرفه العرب حتى في الجاهليّة. وقد جاءنا أوّلاً بحُجج الهويّة، أو ما كان يسمّى (التابعيّة)؛ إذ لا بُدّ من ذِكر اسم القبيلة مع كلّ اسم، وربما أضيف أحيانًا الفخذ وفخذ الفخذ! وقد كشفتْ أحداث الحادي عشر من سبتمبر عن أن في ذلك مشكلةً للمواطن العربي حين يكون خارج الوطن. والإنسان لم يَعُد محصورًا في وطنه، بل هو يَسْبُر هذا الكون عرضًا وطولاً. وفضلاً عمّا يُحدثه اللَّقَب من تشابه ولَبْس في الأسماء، فإنه قد يُضِرّ بمصالح، ويأخذ مَن لا جريرة له بجريرة آخر، فقط لتطابق في لَقَب. لقد كان اسم الأب والجدّ يكفيان، ويميّزان، إلى جانب المعلومات الثبوتيّة والأرقام. أمّا النَّسَب، فمعروف لمن شاء البحث في الأنساب، وكان من هواة التسلّق لأشجارها وغاباتها، إلاّ أنه لم يكن من الضرورة في شيء أن يُلصق اسم القبيلة بالاسم الشخصيّ، وبلا فكاك.
إن الشجرة النهائيّة للأنساب تؤول إلى تراب: (كلّكم لآدم، وآدم من تراب)! ومحمّد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم -، لم يكن اسمه يُقرن لزامًا بالقرشي، أو الهاشمي، فيُدعَى: محمّد بن عبدالله القرشي، أو الهاشمي، وإنما هو: محمد بن عبدالله، كما هو مشهور، وموثّق في رسائله: (من محمّد بن عبدالله) إلى العالم كافّة. وما كان صحابته كذلك يلقّبون قَبَليًّا. فمَن يَعرف - غير الباحث أو المتخصّص - مِن اسم أبي بكر الصديق، أو عمر بن الخطاب، أو عثمان بن عفان، أو علي بن أبي طالب، غير الاسم الأول واسم الأب؟ كما لم يكن ذلك لدى العرب قبل الإسلام - ضربة لازب - بدليل أسماء الشعراء المشهورين: امرئ القيس، زهير بن أبي سُلمى، طرفة بن العبد.. إلخ. مَن ذا الذي يعرف أسماء قبائل هؤلاء، سوى المعنيّين بالتراجم؟
فمِن أين جاءنا هذا التشبّث العجيب بالألقاب والقَبَليّات؟ وهل أجدانا فتيلاً بين الشعوب والقبائل، التي خلقها الله من ذَكَر وأنثى، أصلهما من طين لازب؟ إنما يبدو، إذن، نوعًا من المُعَوِّض النفسي والاجتماعي عن عِزّ موهوم، ومجد حُلُمي، ينفيه واقع.
وفي هذا السياق، يلفتنا قول (ابن تيميّة) - ق7 - 8هـ - في كتابه (مجموع الفتاوَى، 3: 415): (الأسماء التي يسوغُ التسمِّي بها مثل: انتساب الناس إلى إمام: كالحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، أو إلى شيخ: كالقادري، والعدوي وغيرهم، أو مثل الانتساب إلى القبائل: كالقيسي، واليماني، وإلى الأمصار: كالشامي، والعراقي، والمصري... لا يجوز لأحد أن يَمْتَحِنَ النَّاسَ بها، ولا يُوالي بهذه الأسماء، ولا يُعادي بها، بل أكْرَمُ الخلق عند الله أتقاهم، من أيّ طائفة كانت). لكنّ هذا الذي علّل به ابن تيميّة استنكاره (امتحان الناس) بالألقاب إنما هو بالنظر إلى الأسباب الدينيّة المتعارضة مع الغلوّ في ذلك السلوك، غير أن هناك أسبابًا أخرى، أوّلها ما أشرنا إليه من أن تلك المغالاة لا أصل لها، لا من تاريخ العروبة ولا تاريخ صدر الإسلام. وإنما هي بدعة مَرَضِيّة متأخّرة، ومؤشّر ذو دلالة اجتماعيّة عميقة. وقد لُزّمنا بها تقليدًا، طوعًا أو كرهًا، وإنْ كانت ممّا إثمه أكبر من نفعه.
ومِن الملامح اللغويّة الممعنة في دلالتها أيضًا تذكير تلك الألقاب، وإنْ كانت لإناث؛ لأن الأنوثة لا يجوز أن تلوّث اسم القبيلة. ونحن ندرك أن اسم المرأة قد صار في العصر الحاضر عورة من عورات النساء في بعض المجتمعات، حتى في مناسبات الزواج، التي الأصل فيها، والمسلّم شرعًا، الإعلان والإشهار لاسمَي العروسين. على حين كانت الألقاب في تاريخ العربيّة تَتْبع - إنْ ذُكِرَت - الملقَّبَ، تذكيرًا وتأنيثًا؛ فنقرأ في ألقاب النساء مثلاً: البسوس بنت منقذ البكريّة، (شاعرة جاهليّة، خالة جسّاس بن مُرّة الشيباني، التي باسْمِها سُمّيتْ حرب البسوس بين بكر وتغلب)؛ الجيداء بنت زاهر الزبيديّة، (شاعرة جاهليّة أيضًا، قَتَلَ عنترةُ زوجها خالد بن محارب الزبيدي فرَثَتْه)؛ الفارعة بنت معاوية القشيريّة، (شاعرة جاهليّة)، وهكذا. لم يكونوا يستنكفون من هذا، ولا ليلقّبوا النساء تلقيبًا مذكّرًا، فيقولوا: (البسوس البكري؛ الجيداء الزبيدي؛ الفارعة القشيري)، على طريقتنا اليوم؛ إذ نُتْبِع اللَّقَبَ الأبَ لا البنت؛ لأنْ لا حقّ للبنت فيه؛ بما هي أنثى!
ولهذا كلّه دلالته على أنّ بعض (عبيّتنا) الجاهليّة باتت أوسع من (عبيّة) من ننعتهم بأهل الجاهليّة! حتى إن المرأ لو أراد تسجيل بناته اليوم على تلك الطريقة العربيّة الأصيلة، لقوبل باستهجان، بل ربما بعدم قبول لتلك الصيغة في سجلاّت الأحوال المدنيّة، المبرمجة بدورها حاسوبيًّا بنمط قَبَليّ ذكوريّ! ولقد ذهبنا في مناقشة هذه الظاهرة، منذ سنوات - وعَبْر هذه المساقات - إلى أننا بهذا نمارس، رمزيًّا، شيئاً شبيهاً بالوأد الثقافي, فيما كان للمرأة قديمًا نصيبها من الانتماء القَبَلي، بل هناك قبائل عربيّة تنتمي إلى نسائها، ونساء اتُّخذن فخرًا قَبَليًّا، (يعتزي) بهنّ أبطال القبيلة، على أنهم: (إخوان فلانة). لكأننا لسنا موكّلين إذن إلاّ بانتقاء أسوأ ما في التراث، لغةً وفكرًا واجتماعًا، مع القيام بتغيير ما فيه من حَسَن قويم كي يتماشى مع عاداتنا المستحدثة، التي نزعم أنها أخلاقيّة وعربيّة، ومنها ما ليس كذلك!
ومن اللافت هنا أن الظاهرة ليست لدينا في الجزيرة العربيّة فقط، بل هي في العالم العربي كلّه! فهل للغة علاقة بهذا.. من حيث إن الفصحى أكثر تقنينًا في مسألة المؤنّث والمذكّر، فيما تخلط العاميّة هذا بذاك: فتُسقط نون النسوة كثيرًا، وتلقّب المؤنّث بالمذكّر.. إلخ؟ لا شكّ أن اللغة لا تنفصل عن عقليّاتنا وسلوكيّاتنا، بل هي مكوّن عضويّ في ذلك كلّه. والفصحى تظلّ لغة أُنثويّة - إنْ جاز القول - لمكانة الأنوثة، البالغة حدّ القداسة، في تاريخ هذه اللغة؛ بدليل أن آلهة العرب كانت أُنثويّة غالبًا لا ذَكَريّة. في حين تطغَى الذكوريّة على البنية العامّة الغالبة للّهجات، ذات التاريخ السلوكي الاجتماعي المختلف في النظرة إلى المرأة، وإن لُبّست اللبائس.
وقد يُعترض على هذا بالقول: إن عدم التمييز بين الجنسين قائم في لُغات أخرى، وربما ما توارد إلى اللهجات العربيّة إلا تأثّرًا بتلك اللغات. ولعلّه ما كان الفصل بين الجنسين في بنية العربيّة إلاّ إفرازًا للفصل العنصري الاجتماعي بينهما! وهذا اعتراض جدير بالتوقّف. إلاّ أن الشواهد التاريخيّة، واللغويّة، تناقض تلك الصورة النمطيّة المبالغ في تعميميّتها حول علاقة العربيّ القديم بالمرأة، وإنما للعرب من ذلك كما لغيرهم من الشعوب، بل إن التاريخ العربي القديم واللغة العربيّة يدلاّننا على أن النظرة العربيّة لم تكن في الغالب المطلق عنصريّة ضدّ المرأة، اللهم إلاّ إذا كان ذلك بمعنى (تفضيل الأنثى على الذَّكَر)، بقرينة ما أشرنا إليه في آلهات العرب، وكذا ملكات العرب (1)، وما يعرفه اللغويون من أن صيغ المؤنّث في العربيّة تأتي للتعظيم لا للتحقير. أمّا ما حَدَث في اللهجات العربيّة المتأخّرة، فالتفافٌ متعمّد - لا يتساوق ونواميس العربيّة، ولا يتطابق ولغات أخرى - تولّد عن أزمة ثقافيّة اجتماعيّة لا لغويّة. وإلاّ لماذا لم يحدث العكس؛ أي تأنيث اللقب مع الملقَّب وإنْ كان ذَكَرًا، لا تذكيره مع الملقَّب وإنْ كان أُنثى؟!
والواقع - الذي لا ينكره إلا مكابر - أنه قد طرأ تراجعٌ مريع خلال القرون الأخيرة في النظرة إلى كرامة المرأة - واحترام عنصر الأنوثة عمومًا - وحقوقها الإنسانيّة الأوّليّة. يشهد على هذا - إلى جانب اللغة - لغةُ اللغة، أيّ لغة الشِّعر والأدب، منذ بعض نماذجها في الشعر العبّاسي، وصولاً إلى شِعرنا الحداثي. ألم يقل محمود درويش (2)، مثلاً:
(الكرمل في مكانه السيّد... ينظر من عل إلى البحر. والبحر يتنهَّد، موجةً موجةً، كامرأة عاشقة، تغسل قَدَمَيْ حبيبها المتكبّر!).
وليست المعضلة هنا في (السيّد.. حبيبها المتكبّر)، ولكن في ذلّتها هي! ثم في استساغة الشاعر الكبير تمرير صورة تشبيهيّة تمثيليّة مثل هذه على الذائقة.. ومهما كانت المسوّغات!
***
(1) يمكن الرجوع مثلاً إلى رسالة ماجستير بعنوان (الملكات العربيّات قبل الإسلام: دراسة في التاريخ السياسي)، للباحثة هند محمّد التركي، (مؤسّسة عبدالرحمن السديري الخيريّة، 1429هـ - 2008م).
(2) أَثَر الفراشة: قصيدة (أنت، منذ الآن، أنت).
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net