رحلت شمس هذا اليوم.. حملت معها رجلاً طيباً.. الساعة تشير إلى التاسعة مساء.. النور انطفأ.. نور (الطيب) انطفأ.. غداً سأرى صورته في الجريدة.. أو ربما خبراً دون صورة.. أو صورة دون خبر.. كل الطرق تؤدي إلى أن (الطيب صالح) رحل وأن وشاحاً أسود سيلوح هذه الليلة في الأفق.
قرأته عندما كان عودي ليناً، لم أكن يومها أعرف كيف يقرأ الصندل وكيف تشم رائحة الكتب.. قرأته وأحببته ثم تركته في ذاكرتي مركوناً مهملاً.. ودون أن أعي سبباً أعادني إليه شوق غريب.. فأقبلت عليه.. قرأته مرة أخرى وأحببته هذه المرة أكثر.. هاجرت إلى شماله في موسم لا يهاجر فيه أحد.. دخلت مغارته التي لم يدخلها أحد.. قطفت ثماراً لا يعرف مخبئها أحد.. عشت سعادة لم يعشها أحد.. وعندما مددت بصري بحثاً عنه (رحل)!!
هكذا دون ضجة رحل..
ولكن..
أيرحل العظماء؟
أيرحل العباقرة؟
أيرحل من صنع موسماً أسمر يهاجر بأبطاله إلى الشمال؟
أيرحل من كتب هذا؟:
(عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة، سبعة أعوام على وجه التحديد، كنت خلالها أتعلم في أوروبا. تعلمت الكثير، وغاب عني الكثير، لكن تلك قصة أخرى. المهم أنني عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل.. سبعة أعوام وأنا أحن إليهم وأحلم بهم، ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقة قائماً بينهم، فرحوا بي وضجوا حولي، ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس. ذاك دفء الحياة في العشيرة، فقدته زمناً في بلاد تموت من البرد حيتانها).
وكتب هذا؟:
(تسقيني لذاذات الأكاذيب العذبة وأنسج لها خيوطاً دقيقة مريعة من الأوهام. تقول لي إنها ترى في عيني لمح السراب في الصحاري الحارة. وتسمع في صوتي صرخات الوحوش الكاسرة في الغابات، وأقول لها إنني أرى في زرقة عينيها بحور الشمال البعيدة التي ليس لها سواحل).
وهذا:
(كأن ذهني قد صفا حينئذ، وتحددت علاقتي بالنهر إنني طاف فوق الماء، لكنني لست جزءاً منه، فكرت أنني إذا مت في تلك اللحظة فإنني أكون قد مت كما ولدت، دون إرادتي، طول حياتي لم أختر ولم أقرر، إنني أقرر الآن أنني أختار الحياة).
وقد اخترت الحياة أيها (الطيب)، اخترتها حين اخترت أن تكون كاتباً عظيماً لا يشبه الكتّاب.
amerahj@yahoo.com
- دبي