2- النفسي بوصفه نقداً أدبياً:
قد يكون من المعاد المكرور القول هنا في علاقة النفس بالأدب؛ فمثل هذا القول أضحى من المسلّمات التي لا تقبل الجدل، ولا تحتاج إلى غربلة تدليلية لإثباتها، فكاتب الأدب الحقِّ - الشعريِّ منه خاصة - لم يكتب إلا في لحظة نفسية ضاغطة تجاه شخص، أو معنى، أو شيء من الأشياء، على حدِّ تعبير (شاند)، والمتلقي لا يتفاعل مع هذا النصِّ أو ذاك إلا لأنه لا مس في نفسه موقفاً نائما فأيقظه، وهكذا إذن الأدب نهر ينبع من النفس، ويجري عليها، ويصبُّ فيها، وله جداول ربما لا مست أشياء كثيرة ليست ذات ارتباط مباشر بالنفس مفردة، لكنها ليست منفصلة عنها في الإطار الجمعي. هذه العلاقة الكبيرة بين النفس والأدب جذبت بعض النقّاد، ودفعتهم إلى الاشتغال عليها، فكان من نتاج اشتغالهم ما يعرف بالمنهج النفسي الأدبي (للاستزادة انظر: عزّ الدين إسماعيل، التفسير النفسي للأدب)، الذي أصبح فيما بعد نمطاً من أنماط النقد الأدبي، له روّاده، وجماهيره...، لكنّ عدداً من نقّادنا - التطبيقيين منهم خاصة - يرون أنّ النقد النفسيّ كان سبباً رئيساً في انقلاب القراءة النصّية، وتعطّل الحكم المعياري، لحساب المبدع أو الشخصية التي يستبطنها النصُّ الروائي، ويرون أنه ابتعد كثيراً عن مركز الأدب / النصّ، هذا ما يؤكِّده (الغذّامي) في معرض حديثه عن النقد الشعري في (الموقف من الحداثة)، وهو عينه ما يؤكِّده (بحراوي) في حديثه عن النقد الروائي في (بنية الشكل الروائي).
هل يمكن أن يكون المنهج النفسي أدبياً؟
هذا السؤال الشقي من شأنه أن يلغي جهوداً نقدية كبيرة دخلت عالم الأدب عبر بوابة المنهج النفسي، ومن شأنه كذلك أن يضع صاحب المنهج النفسي أمام صورته الحقيقية، وقد قرَّر غير دارس من الذين داعبوا هذا المنهج تنظيرياً أن النقد النفسي يفرُّ من تقويم النصّ جمالياً وأخلاقياً إلى البحث عن دوافع إيجاده، واختيار طرائقه، وفلسفة قائله، والبحث عن الرغبات الأولى غير المشبعة عند المؤلِّف أو الشخصية، وهذا كله يعني أنّ المنهج النفسي يمكن أن يستهدف أيّ نص مهما كان ضعيفاً، وحتى إذا استهدف نصاً قوياً من الناحية الفنية فإنه لا يجلي مواطن الإبداع فيه، ولا يقوِّمه.
ثم إن بعض الممارسات النقدية التي شكّلت هذا المنهج غربيا وشرقياً انتهت إلى أنّ التحليل النفسي الأدبي يستهدف بأعماله تقرير إشكاليتين، هما: ما الذي يجعل الفنّان فنّانا؟ وكيف نعرف شخصية الفنان أو الأديب من آثاره؟ (انظر: سامي الدروبي، علم النفس والأدب، ص 225)، وهما معاً - كما نرى - لا يملكان القدرة على تقويم النصّ جمالياً، ولا على تبيان ما فيه من جماليات أو قبحيّات، من هنا كان رفضنا الأولي للمنهج الذي اعتمد الكتاب عليه، وإن كان اعتماداً مخاتلاً غير واقعي كما سيتضح.
هذه الملحوظة تجعلنا نرفض من المبتدأ إدراج أية محاولة نقدية نفسية في مجال النقد الأدبي، وإذا كان النحاة - مثلاً - قد انطلقوا من الشعر العربي الناضج في تقعيد القواعد النحوية، وشرحها، وتوضيحها، وما من أحد تجرأ على إدراج محاولاتهم تلك تحت مظلة النقد الأدبي، فإن للنفسي أن يكشف عن نفسية الشاعر، أو بواعثه الإبداعية، بالطريقة التي يشاؤها، لكن ليس له أن يدرج محاولته تحت مظلة النقد الأدبي...
وهذا لا يعني بحالٍ من الحالات إسقاط المنهج النفسي من حساب المناهج النقدية العامة، أو حتى من أدوات النقد الأدبي...، إننا نؤمن بوجود المنهج النفسي، ونقدِّر محاولات أعلامه، لكننا نرفض أن يكون واحداً من أفراد البيت النقدي الأدبي.
3- الإشكالية المنهجية:
وجدتني بعد قراءة الكتاب أمام إشكاليتين كبيرتين: إحداهما: يعاني منها القارئ، وهي عدم وجود منهجية محدّدة للتناول النفسي ذي الأنماط المتعدِّدة، والأخرى: تفكّك الممارسة النفسية داخل الكتاب، وعجزها عن الثبات على شكل من الأشكال...، ولكي أضع القارئ الكريم أمام الصورة الكاملة لما سبق سأتوقّف عند كلِّ إشكالية على حدة.
3-1 الإشكالية الأولى: عدم تحديد المنهج للقارئ:
لم يشر المؤلِّف في مقدِّمة كتابه إلى المنهج النفسي إلا في موضع واحد، نقرأ: (ولأنّ حمد الحجي حالة خاصة بين شعراء المملكة ناسب أن أفيد من الدراسات النفسية لمعرفة آلام نفسه، ثم أثرها في شعره؛ وذلك لأنه أصيب بانفصام في الشخصية سبقته أعراض الإصابة بهذا المرض؛ مما يجعلني أتساءل: هل صوّر شعره إرهاصات الفصام؟ ((ص11).
يظهر هذا المقتطف القصير أنّ هناك كسوراً كثيرة في المنهج، من أهمِّها اثنان: الأول: أنّ المؤلِّف ذكر (النفسي) دون أن يحدِّد مستواه، أو النمط المختار للدراسة، والآخر: أنّ المؤلف يريد الاستعانة بالدراسات النفسية لتشخيص حالة (الحجي) بوصفه إنساناً مريضاً، ثمّ بعد أن يضع خريطة كاملة له ولأمراضه ينطلق باتجاه البحث عن تجلياتها فيما كتبه من شعر.
مدار الاشتغال - إذن - (الحجي) وليس شعره، وما الشعر إلا مسلك من المسالك الكثيرة التي تنتهي إليه...
وبعيداً عن مناقشة هذين الكسرين فإنّ هذا المقتطف الوحيد الذي يشير إلى استعمالات (النفسي) لا يمكن أن يضاف إلى المنهج النفسي في الأدب؛ إذ إنّ المنهج النفسي كما يقرّر ذلك سدنته - ينتهي إلى الإجابة عن إشكاليات متعددة (1) من أهمِّها:
- ما الرغبات المدفونة التي أثارتها في نفس الشاعر حادثة القصيدة؟
- ما الذي يجعل الفنّان فنّاناً؟ ما الذي يجعله أديباً؟
- كيف نعرف شخصية الفنان أو الأديب من آثاره؟
وما يقدِّمه المؤلِّف في هذا الكتاب - انطلاقاً مما أشار إليه في المقتطف السابق - لاينهض بالإجابة عن هذه الأسئلة، ولا عن التساؤل الأخير بصفة خاصة.
إذن ليس ثمة منهج نفسي في هذا الكتاب، وإنما هناك منهجية تنتحل شخصية المنهج النفسي، مستغلة ظروف المبدع، وتعالق الناس معه بوصفه إنساناً.
Alrafai16@hotmail.com