عندما طرح جروتوفسكي السؤال على نفسه ما هو المسرح؟ انطلقت لديه أكثر من نقطة تفرعت عن هذا السؤال بماذا ينفرد المسرح عن غيره من الفنون؟ ما هو الشيء الذي يمكن للمسرح أن يقدمه ويعجز عنه التلفزيون والسينما.. ومن خلال كل هذه الأسئلة وجد الإجابة في شكل المسرح الفقير.. لذلك فكر كثيراً في (المسرح الفني) وهو مسرح الضد بالنسبة للمسرح الفقير فماذا يقول عنه هذا المسرح: المسرح الفني هو ذلك المسرح الذي يضم معارف إبداعية متباينة الأدب.. النحت.. الرسم.. العمارة.. الإضاءة.. الموسيقى.. الأزياء.. التمثيل وهذا المسرح مركب نتج عن اختلاط كل هذه المعارف ولذلك هو مسرح غني ولكن بالعيوب!!
لماذا هو غني بالعيوب يا سيد جروتوفسكي؟؟
قال: لأنه يعتمد على السرقة بل والولوع بالسرقة الفنية والاقتباس من معارف أخرى وبناء مشاهد هجينة مختلطة يعوزها السند والأمانة ورغم ذلك تقدم لنا على أنها عمل فني متكامل..
لذلك رفض جروتوفسكي ذلك وبدأ في تكوين مسرحة الفقير الذي يقوم على رفض كل تلك المعارف الهجين وجعل الممثل الشخصية والتمثيل هي لبّ الفن المسرحي وأن البراعة المسرحية تكمن في قابلية الممثل على التحويل من نوع إلى نوع ومن شخصية إلى شخصية ومن صورة إلى صورة، كل ذلك من خلال استخدام جسد الممثل وفنه ولذلك قام مسرحه على إلغاء كل العناصر الأخرى وبناء مجموعة من الأسئلة طرحها جروتوفسكي على نفسه ووصل من خلالها إلى شكل مسرحه...
ما هذه الأسئلة وكيف نصل من خلالها إلى شكل المسرح الفقير؟ قامت هذه الأسئلة على التالي:
- هل يستطيع المسرح أن يحيا من غير ملابس ومن غير مناظر؟
- هل يستطيع المسرح أن يحيا من غير موسيقى تصاحب الحبكة المسرحية؟
- هل يستطيع المسرح أن يحيا دون تأثيرات ضوئية؟
- هل يستطيع المسرح أن يحيا دون نص؟
- هل يستطيع المسرح أن يحيا دون ممثل؟
وقد وجد أن الإجابة على الأسئلة الثلاثة الأولى. نعم يعيش المسرح دون ذلك ثم فكر في النص ووجد أنه من الممكن أن يكون هناك مسرح دون نص ووجد أن تاريخ المسرح يقول: إن النص كان أحد آخر العناصر التي أضيفت إليه ووجد تجارب الارتجال الكثيرة على المسرح تثبت أن المسرح يقوم دون نص كلامي.
ولكن هل يستطيع المسرح أن يحيا دون ممثل ووجد الإجابة في.. لا..
لقد توصل إلى أن المسرح هو (ما يحدث بين الممثل والمشاهد وكل شيء آخر إضافي.. قد يكون ضرورياً ولكنه مع ذلك يبقى إضافي).
يقول جروتوفسكي نحن أمام معضلة السينما والتلفزيون والكثير من رجالات المسرح يدركون هذه المعضلة، غير أنهم يفكرون بحل خاطئ يقولون ما دامت السينما تسود على المسرح من وجه النظر التقنية فلماذا لا نجعل المسرح أكثر تقنية فيخترعون مسارح جديدة ويقدمون عروضاً مزودة بمشاهد تتغير بسرعة خاطفة وبإضاءة وديكور معقدين ولكن هل استطاعوا التفوق على تقنية السينما أو حتى التلفزيون.؟
والإجابة واضحة تماماً لم يتم ذلك ولذلك يجب أن يدرك المسرح حدوده..
- إذا لم يستطع أن يكون أغنى من السينما فليكن أفقر..؟
- وإذا لم يستطع أن يكون مسرحاً مسرفاً كالتلفزيون فليكن متقشفاً.. ؟
- وإذا لم يستطع أن يكون جذاباً فدعه ينبذ كل أشكال التقنية..
وهكذا يبقى لنا في الخلاصة ممثلاً مميزاً من مسرح فقير.. ولذلك يكون الممثل في هذا المسرح صاحب مواصفة خاصة تجعله يتحدى نفسه والآخرين علناً وهذا الممثل الذي يستخدم جسده في تجسيد كل أمر وبالتالي يقوم هذا الممثل بتدريب نفسه تدريبات شاقة لكل أجزاء التنفس والصوت والمرونة والحركة والإشارة وبناء الأقنعة بواسطة عضلات الوجه ومجموع تلك التدريبات تجعل الممثل قادراً على إظهار أصغر الدوافع بواسطة الحركة والصوت وليس الغرض من التدريبات في منهج جروتوفسكي تكديس المهارات المختلفة، إنما حذف أي معوقات جسدية أو نفسية قد تعيق كشف ذاته وقدراته.
وبالعموم يعد الكثير من المسرحيين في العالم أن منهج جروتوفسكي في المسرح الفقير يعد من أخطر وأهم المناهج المسرحية في العالم وذلك لجرأته في مواجهة التقاليد المسرحية والإضافات والإبداعات الجريئة التي تكاد تصدم الجميع وتدهشهم وهي تركز على أساس متين من المعرفة بعلوم المسرح وفنونه وتاريخه ولعل أهم ما في المسرح الفقير هو قدرته على حل كثير من الإشكاليات التي يتعرض لها المسرح لدينا حالياً من فقر حقيقي في كل موارده.
الطائف