هَمُّ الأنامِ ولَذَّةُ الإنشاد
ِهَتَفا بقلبي فاستباحَ سُهادي
والليلُ يَنْتَعِلُ الفضاءَ فلا أرَى
إلاّ سوادًا داسَ رأسَ سَوادِ!
وأيّ همٍّ أكبر من أنْ يشعر الإنسان أنه مهدّد في إنسانيّته، وقوامها اللغة؟! إن العاميّة- ولاسيما حينما يرسّخها الإعلام، ثم يعترف بها التعليم- لن تبني فينا إنسانًا مزدوج الهويّة والانتماء فقط، بل ستبني إنسانًا مشتّت الهويّة والانتماء، مستلَبًا، تائهًا، يعيش فصامًا إنسانيًّا. وفي الحقّ أنها ستبنيه ناعم العريكة، مِطواعًا للاقتحام، هيّنًا ليّنًا، قابلاً للذوبان بطبعه. هذا ناهيك عن استحالة أن تتيح له حالتُه تلك أن يشبّ إنسانًا مبدعًا بحال من الأحوال، بما تعنيه كلمة إبداع من قيمة، ولا أن يحيا قادرًا على أن يُنتج فكرًا أصيلاً، غير لاهثٍ وراء سيّداته وسادته، ولا أن يُثمر عِلمًا رصينًا، يضيف جديدًا لا تقليدًا. ذلك لأن للذهن الإنساني آليّات أوّليّة للعمل- لا تحتاج إلى مختبراتٍ ولا إلى مراصد فلكيّة لاكتشافها- وأوّل تلك الآليّات: اللغة. واللغة- ببركة تدابيرنا الحكيمة، وبمفعول عشقنا لكلّ ما لذّ وطاب وأمتع، ولخصوصيّة ما وجدنا عليه آباءنا- هي آليةٌ معطوبة في رؤوسنا، لا تعمل إلاّ في مجال اللهو واللعب، وبالتأكيد في ميدان الشتائم اليوميّة، ومعترك الاحتياجات البدائيّة.. وهي أغراضٌ، لغات الصمّ والبكم تنهض بها، بالكفاءة نفسها، أو أفضل.
لن يجدينا الضحك على أنفسنا متغنّين بأن اللغة العربيّة محفوظةٌ، ونحن نراها اليوم من أضيع لغات البشر في العالَمِين، هذا إن كانت ما تزال حيّة أصلاً! وهي بين أبنائها- بلا شكّ- أضيع من قمر الشتاء، وفيهم وجودها أضيع منه لدى غيرهم من مستعمليها غير الناطقين بها؛ فالعرب اليوم هم غير الناطقين بها! كيف لا يحدث ذلك، وبكتيريا العاميّات تنهشها منذ قرون؟ مواصلة فعلها الآن- أكثر من أيّ لحظة تاريخيّة- بما سُخّر لها، بفضل المال العربي والفراغ الذهني، من أسباب لا تحلم لغةٌ أخرى بها، بما في ذلك اللغة الإنجليزيّة. يأتي هذا كما لو كان اصناع منفًى اختياريّ للعرب عن لغتهم أكثر فأكثر، لكي يقطعوا صلتهم بماضيهم أعمق فأعمق، ويفرّقوا شملهم في شعاب الأرض شذر مذر، وكيما تأتي اللغات الأجنبيّة وقد جهّز لها العربان السبيل، سهلة دمثة، مرحّبة مسهّلة، مفروشة بالسجاد الفارسي، كي تُجهز تلك اللغات على شميم عرارٍ من العربيّة ما زال يدلّ على بقايا أهله! ولكي نُستعمر ثقافيًّا استعمارين: استعمارًا داخليًّا ببقايا تخلّفنا المتراكمة، واستعمارًا خارجيًّا باللغات الأجنبيّة، بحروب ثقافاتها وإرهاباتها المتنوّعة، والاستعمار الثقافي هو أدهى وأمرّ! ومع ذلك، كنا- وما زلنا وسنظلّ- نتغنّى: بأن لغتنا كانت- وما زالت وستظلّ- في الحفظ والصون، تنام في خِدر أمّها وتحلم، كبنت السلطان!
بين أظهرنا تتوزع الأدوار في هذا العصر الرجيم، وتُتقاسم المهمّات، وتحدّد كميّات الأسهم، وأطوالها، وأنواعها.. بين بلدان، ومؤسّسات، واتجاهات، كلٌّ قد عرف دوره. والتنافس بينها محموم على أشدّه، كلّ فيما يخصّه، فلكلّ ممثلٍ نصيبه المرسوم في تمزيق ما تبقّى من كرامة. واللغة العربيّة- بصفتها، كما هو واضح، ورقة التوت الأخيرة- تُعرض الآن على الشاشة، في هذا المشهد الدرامي الأخير من مسلسلنا العربي (العامّي-الأجنبي، المدبلج)، الذي نتفرج عليه صباح مساء، ثم نعترك في نهاية كلّ حلقة حول آرائنا المختلفة فيما فعل البطل والبطلة!
فهل نقول إن الشِّعر العامّي- في هذا السياق- شرٌّ كلّه؟
قد يبدو مَن يتابع هذه المقالات، وهو سيّء الظن بمآرب صاحبها، ذا إجابة جاهزة: أنْ نعم!
ولكنني سأقول: لا!
إن من الإنصاف الإشارة هنا إلى إيجابيّات محدّدة يحملها الشعر العامّي- في حدّ ذاته- وبخاصّة النبطي منه. وأعني بقولي «في حدّ ذاته»، أي بما هو شِعر عربيّ، بقطع النظر عن ملابساته الأخرى، لغويّة وثقافيّة، التي تجعل إثمه إجمالاً أكبر من نفعه. لن أتحدث هنا عن قيمته التاريخيّة، ونحو تلك من الحُجج التي عفا عليها الزمن، ولم يعد لها معنى متصل بشِعر اليوم. لكنني أرى أنه يظلّ من إيجابيّات الشِّعر النبطيّ- ولا أتردّد في القول: «إيجابيّات بعض مسابقاته، كمسابقة شاعر المليون»- التي من عدم الإنصاف إغفالها، ما يلي:
1) كشف مواهب شِعريّة فطريّة مدهشة. فلن يجادل أحدٌ في أن بعض شعراء المليون شعراء أذكياء موهوبون. والشِّعر موهبة- قبل كلّ شيء- وليس تعلّمًا، ولو وُجّهت تلك المواهب الوجهة الصحيحة لكان لها شأن عظيم.
2) ابتعاث لغة، وإنْ تخلّت عن قواعد الإعراب، هي في معجمها وجذورها ع ريقة الانتماء إلى العربيّة.
3) إعادة الذائقة الفنّيّة العربيّة الأصيلة السويّة، التي عصفتْ بها دعاوَى العُجمة الحداثيّة والحداثة الأعجميّة. وهل حداثتنا المعاصرة أكثر من مسخٍ غربيّ مشوّه؟- سواء في البنية الإيقاعيّة، أو الصورة الفنّيّة، أو الأسلوب اللغوي؟!
على أن من مفسدات تلك المسابقات فنّيًّا، وأسباب إفساديّاتها اجتماعيًّا، اعتمادَها بنسبةٍ كبيرة جدًّا على تصويت الجماهير. ذلك أن تصويت الجماهير هو أساس التعصّب القَبَلي، والقُطري، سواء في «شاعر المليون» أو «أمير الشعراء». والتصويتُ كذلك هو أساس انحراف النتائج عمّا يقتضيه الحُكم الفنّيّ، المجرّد من الأهواء والأغراض، ومن هناك الوصول إلى نتائج محبطة أحيانًا، بل محطّمة للشعراء الذين كانوا أحقّ بالتتويج ممّن تُوّجوا. وهو في المحصّلة ما يعصف بثقة المتابعين في المصداقيّة الموضوعيّة لهذه المسابقات. والحُجّة القائلة: إن للجماهير حقّهم في الحُكم على الشِّعر، لكيلا يقتصر الحُكم على لجنة التحكيم، هي حُجّة واهية، في رأيي. ذلك أن المصوّت من الجماهير لا ينطلق من ذوقٍ أدبيّ، أو حتى من مجرد انطباعٍ فنّي، ولكن- قبل كلّ شيء وبعده- من تعصّبٍ قَبَلي أو قُطري. ولذلك فإنها حينما تُستطلع آراء بعضهم نلحظ تعبيرهم- بصدق- عن رأيين:
- رأي فنّيّ.
- رأي عاطفيّ.
فلقد كان أحدهم يرى الفائز من الناحية الفنّيّة فلانًا، وهو فيه لا يختلف كثيرًا عن رأي اللجنة النقديّة، لكنه عاطفيًّا يصوّت لابن قبيلته، أو بلده، كائنًا من كان. وهنا تُجعل تلك المسابقات في مهبّ الأهواء المطلقة، بل في مهبّ المكايد الشخصيّة والأغراض الاجتماعيّة. فأيّ دلالة أدبيّة تبقى، إذن، تحت شعار خياليّ فضفاض، ك»أمير الشعراء»، أو «شاعر المليون». لا جَرَم سيتحول الأمر إلى:»أمير الأهواء»، و»شاعر المليون متعصّب». ولذا فإن عامل التصويت الجماهيري هو عامل تأثيرٍ سالب في نزاهة تلك المسابقات، كما هو عامل تأثيرٍ سالب في مستوى التربية الاجتماعيّة على قِيْمتَي: الموضوعيّة، والعدالة. وهو عامل تأثيرٍ سالب في العلاقات الاجتماعيّة؛ لما يؤجّجه من نعرات قَبَليّة وقُطريّة، فضلاً عمّا يستنفده من طاقات المتابعين وأموالهم، التي تُهدَر لإحراز قصب السبق في مَجْد الصّيت الشِّعري لهذه القبيلة أو تلك. وهو مَجْدٌ خاسر، وقد يأتي أو لا يأتي؛ نظرًا لازدواج المعايير. وليس يبرّر الأخذَ بالتصويت هدفُ المسابقة الجماهيري، ناهيك عن هدفها الماديّ، كما لا يسوّغه ما قد يقال عن فكرة ترويض الناس على حريّة الاختيار، لحضور شكلٍ من التصويت الانتخابي- إنْ جاز التعبير. ذلك لأن الجماهيريّة متحقّقة تلقائيًّا للبرنامج دون اللجوء إلى الاتّكاء على آليّات التصويت. وإنْ هي لم تتحقّق إلاّ بتلك الآليّات، فذلك يعني جماهيريّة ستضمحلّ مع الأيّام، وهو ما يعني- في المقابل- التضحية بجودة البرنامج وجدّيّته ونزاهته، وبما يرجّى منه من الارتفاع بالذائقة الشِّعريّة العامّة، لإعادة الشِّعر- المستهدف في عصرنا- إلى سدّة مجده، لا لشيء إلاّ من أجل جماهيريّة إعلاميّة زائفة زائلة. وفي التالي، سوف تؤول الحكاية برمّتها إلى ابتزاز متبادل: ابتزاز مادّيّ في ابتزاز فنّيّ.
(ونواصل حول هذا المناقشة في المساق الآتي، إن شاء الله).
* (عضو مجلس الشورى) - الرياض
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net