لقد أصبحت غزة مأزقا لتطبيق مفهوم القومية العربية، وبالتأكيد ليس هو المأزق الأول لصعوبة التطبيق بل هو الأخطر، خاصة أن هناك تحركا مضادا نشطا أو فلتقل إن هناك تحركا لطابور ثان يحاول إزاحة ثقافة القومية العربية لمصلحة إعادة تعبئة محتوى مركز الهوية وبالتالي إعادة ترتيب أولويات الخطاب الوحدوي للأمة في إلغاء مقصود لمحتوى تمركز سيرة الهوية العربية الحديثة.
ان تكرار عمليتي الإزاحة والإحلال ترهّص لتحولات جذرية في مفهوم الهوية الجمعية وأولوياتها، وأقول تكرار لأن هذه ليست المرة الأولى التي تمارس فيها عمليتي الإزاحة والإحلال للهوية العربية المعاصرة، بل ستصبح المرة الثانية في حالة نجاحها.
ففي المرحلة الأولى تمت عملية الإزاحة والإحلال عبر ثلاثة أطوار: الطور الأولى من خلال الحركات السرية التي أسست خلف ظهر الدولة العثمانية، والطور الثاني كان تفعيلها عبر البيانات الوجدانية الذي مثلتها الحركات الأدبية في كل من دمشق وبيروت لتمهيد الوعي الثقافي أولا لاستقبال ذلك التغيير الذي سيتطلب بموجبه إعادة لصياغة انتمائية جديدة تمركزه نحو الهوية العروبية كقيمة مطلقة لوحدة هويته، والطور الثالث خروج مفهوم الإزاحة والإحلال من سريتها ووجدانيتها نحو تخطيط إجرائي أنتج في النهاية حركة سياسية أعلن عنها في باريس عام 1912م، ويعتبر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر هو الأب الروحي للسياسة والثقافة القومية العربية، وبذلك أصبحت مصر رمزا لثقافة القومية العربية، ولذلك لا نندهش اليوم من الهجمة الشرسة على مصر لإسقاطها كرمز لثقافة القومية العربية وهو إسقاط سيتبع بالضرورة سقوط الثقافة القومية العربية، تمهيدا لصياغة رمز في مكان مخصوص يحمل ثقافة الهوية الجديدة القادمة.
ولاشك أن عمليتي الإزاحة والإحلال للهوية الجمعية في ذلك الوقت كانت لهما أسباب عدة منها تحرر العرب من هيمنة واضطهاد الدولة العثمانية ومناهضة سياسة التتريك التي كانت تسعى إلى تغييب مظاهر الهوية العربية والقمع السياسي والديني الذي كانت تمارسه الدولة العثمانية على الأقليات العرقية.
إضافة إلى تقليد الغرب في علمنة الهوية الجمعية للمجتمعات العربية عبر تقديم رابطة الدم واللغة والتاريخ والأرض وتأخير رابطة الدين، (فالدين لله والوطن للجميع) وهو شعار من شعارات ثقافة القومية العربية التي ثبّتت ثيمة علمنة الهوية الجمعية.
هذا التقديم والتأخير أو الإزاحة والإحلال كان يهدف إلى أمرين: أولهما إزالة معيار مظهر الأقلية، فالدين معيار لمفهوم الأقلية والأكثرية في المجتمعات العربية، وتأخيره أو ثانويته يسمح للجميع بالمساواة في الحقوق الاجتماعية والثقافية والسياسية، ولذلك لا نعجب أن المفكرين النصارى العرب في بيروت ودمشق أمثال بطرس وسليم البستاني وناصيف اليازجي ومنيف خوري كانوا هم الأوائل في تبني إحلال العروبة كمحتوى للهوية العربية بدلا من (الدين) عبر بياناتهم الأدبية.
إضافة إلى اعتقاد الوعي الثقافي العربي في ذلك الوقت أن سبب تخلف المسلمين وضعفهم هو الدين وأن إحلال محتوى آخر محله سيؤدي إلى تغيير أحوال المجتمعات العربية وكان البديل هو العروبة، العروبة التي أصبحت شعارا لكل حركات التحرر في المجتمعات العربية، ولا نبالغ إن قلنا إنها - العروبة - أصبحت الدين الرسمي للعرب في العصر الحديث، أو كما تقول إحدى شعارات الثقافة القومية (إذا كان لكل عصر نبوءته المقدسة، فإن القومية العربية نبوءة هذا العصر) خاصة أن المجتمعات العربية كانت تشترك في نفس الأزمات والظروف السياسية.
والأمر الآخر هو اعتقاد المفكر العربي المؤمن بالثقافة القومية العربية أن تطبيق علمنة الهوية العربية سينتج ما أنتجه في الغرب أي الثورة العلمية والصناعية للغرب، لكن ما أثبت فيما بعد أن علمنة الهوية العربية ليست الحل لإيجاد حضارة علمية للعرب، وأنها ما جلبت للعرب سوى سوء المصير.
لأن علمنة الهوية بمفردها لا تكفل الوعي الحضاري للفرد، ولا تٌنتج أي إنجاز حضاري في غياب خطط التنمية، فالتوازن بين علمنة الوعي وخطط التنمية هما اللذان يحققان المنجز الحضاري للمجتمع، وهذه هي المعادلة التي غابت عن مؤسسي علمانية الهوية العربية الحديثة.
ولا نغفل أن قبل كل ذلك كان هناك مخطط عالمي لفصل العرب عن الدولة العثمانية لإضعافها وفي الوقت نفسه الاستفادة من نرجسية العرب، وهو فصل سيسهل فيما بعد قبول العرب للانضمام إلى الثورة العربية والعمل في الصف البريطاني ضد العثمانيين، أي توفير أيدي عاملة عربية لتنفيذ المشروع التغييري العالمي الذي التي هندسته بريطانيا وحلفاؤها، الذي أنتج فيما بعد التقسيم القطري للدول العربية ووضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني تمهيدا لإهدائها لليهود.
لقد كانت فلسطين هي الثمن الذي دفعه العرب في سبيل تأسيس ثقافة القومية العربية، الثقافة التي نستنتج من خلال رصد حساباتها وواقع حالها اليوم أنها ما كانت سوى ثقافة وهمية لم تحقق أي نجاح في أي أزمة عربية.
ولا أعتقد أن الثقافة التي باعت فلسطين في الماضي بسوء أو حسن نية قادرة اليوم على استرجاعها.لعله هو المنطق الذي جعل الوعي العربي لا يثق بإمكانية هذه الثقافة في حلّ أي أزمة ويبحث أو يٌدفع بالقوة نحو ممارسة غير واعية لإزاحة محتوى ثقافة الهوية الحالية وإحلال بديل يتناسب مع واقع الحال، بما يضمن له فكرة الخلاص والإنقاذ.
إن تأسيس ثقافة القومية العربية أوائل القرن التاسع عشر قد أحدث مما لا شك فيه شقا في زيّ الأمة أدى إلى استقطاع جزئي من الهوية يتفق مع أولويات تلك الثقافة ثم بلورة الجزء المستقطع لإعطائه صفات الوعي أو العقل الجمعي وتدعيمه بالقاعدة والجدار والسقف ثم تغليفه بالخطابات، وبذلك يصبح الجزئي كليا ومتمما للوهم.
وهذه الكلية لم تكن لتحدث لولا ظروف المسلم في المجتمعات العربية، المسلم الذي عاش زمنا يعاني من اضطهاد سياسي وفقر وأمية ثم استعمار معاناة كانت تصاحب بيانات وجدانية متشنجة بأن الخلاص يكمن في الوعي العروبي والثقافة العروبية والدولة العروبية ولذلك رضي المسلم في تحويل وعيه المبني على قيمة الأمة إلى وعي يُبنى على قيمة العروبة، وهو رضا فرض عليه بعد ذلك قبول صيغ لتفعيل هوية تنطلق من انتماءات أيديولوجية مخصوصة.
لكن بعد هزيمة العرب وفشلهم في استرجاع فلسطين تمرد بعض مفكري العرب على فكرة القومية العربية وقدرة ثقافتها على تحقيق أي وحدة للعرب، أو أي إنجاز سياسي يعيد الأرض، لكن مسألة التمرد تلك لم تكن في مجملها سوى حركات فردية لم تؤثر على الوعي العربي الجماهيري أو تقلل من إيمانهم بتلك الثقافة بسبب هيمنة وسائل الإعلام القومية وارتفاع صوتها، وعندما رحل الرئيس جمال عبد الناصر الذي ارتبطت به ثقافة القومية العربية هدأت ثورة تلك الثقافة حتى أصبحت جزءا من وجدان الجيل العربي الذي عاصر عبد الناصر، وانشغل المواطن العربي بهمومه الاقتصادية، حتى جاء احتلال العراق للكويت ليتأكد الجميع من فشل سياسة وثقافة القومية العربية وكان إعلان الفشل يتضمن إعلانا وجدانيا لموت ثقافة القومية العربية.
وبعد أحداث أيلول والاضطهاد الذي مورس على العرب باسم مكافحة الإرهاب واحتلال العراق التي أرهقت الوعي العربي وشتت مفاهيم ثقافته للأشياء وتقديره للمواقف وتقويمها، جاءت أحداث لبنان وانتصار المقاومة اللبنانية ثم فلسطين وجرأة المقاومة في غزة، ولم يكن الوعي العربي قد تصفى ذهنه من كل تلك الصدمات ليستطيع إجراء الحسابات بصورة صحيحة، وهو مع كل ذلك يعيش يومياً إحساسا مؤكدا بضعف سياسته وثقافته القوميتين، وفي خضم ذلك الإحساس المؤكد تظهر إيران كقوة تملك ما لا يملكه العرب وتتحدى أمريكا، التي لم تقدم للعرب سوى الحرب والدمار، فإيران اليوم هي رمز القوة في الوعي العربي، وهي إشارة ترسل للوعي العربي الجماهيري من قبل إيران بصورة مقصودة لتدفعه نحو مقارنة بين ثقافة قوميته العربية وسياستها وثقافتها الإسلاميتين، مقارنة في النهاية ليست لمصلحة الثقافة القومية العربية، وخاصة أن الوعي العربي يبحث الآن عن مصدر قوة يحتمي ويفاخر به.
إضافة إلى سعي بعض الأطراف الخفية لإسقاط رموز ثقافة القومية العربية من خلال استثمار فشل تلك الثقافة في حلّ أزمة غزة وعجز القومية العربية على تحريك أي قرار دولي لمصلحة غزة ورفع الحصار عنها أو حتى التأثير على الرأي العام السياسي.
وهو تدليل يمهد لها زعزعة قاعدة الوعي العربي لتيسير تفكيكه وإعادة صياغته وفق وعي مختلف يٌقدم الهوية الإسلامية لإحلالها مقابل إزاحة الهوية العربية، أي الثقافة الإسلامية بمفهوم طائفي وسياسي خاصين، كما فعلت قبل ذلك ثقافة القومية العربية، والمشترك بينهما هو الرهان على الوعي الجمعي للمجتمعات العربية.
وخاصة أن الوعي العربي الجماهيري مهيأ حالياً لقبول أي تغيير في بنى وعيه وإعادة صياغة انتمائه، فقد بدأ يفقد إيمانه بسياسات القومية العربية ومن يتأمل وجدانيات الجمهور العربي نحو غزة سيستنتج أن المواطن العربي على وشك الكفر بقوميته العربية ونزوحه التدريجي نحو الحركات الإسلامية أو أي دولة تمثلها وتؤيدها وفي مرحلة متقدمة قد ينتسب بوعيه إلى قيمها ومفاهيمها وأفكارها.
ولا شك أن عمليتي الإزاحة والإحلال تلك ستخدم المشروع التوسعي لدولة إسلامية لإعادة إحياء الإمبراطورية القديمة، وسيكون الوعي العربي حينها مهيأ لقبول الانضمام إليها وتغيير جلد هويته وثقافته.
بالتأكيد أن الوعي العربي الجماهيري وهويته الثقافية يعيش الآن مرحلة صعبة لأنها قد تحمل تغييرا جذريا لمفاهيمه وأفكاره، ومتى جهلنا نتيجة التغيير دخلنا مرحلة الفوضى غير الخلاّقة.
فنحن لا نريد وحدة تسير على مبدأ قول الشاعر العربي:
هبوني عيدا يجعل العرب أمة... وسيروا بجثماني على دين برهم
سلام على كفر يوحد بيننا.... وأهلا وسهلا بعده بجهنم
فقد تجرعنا من منطق الإزاحة والإحلال لوعينا العربي ما يكفي من آلام.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244
جدة
seham_h_a@hotmail.com