كان أحد أصدقائي غريب الأطوار، محباً لفن القصة القصيرة، ويؤلف قصصاً طريفة، ولكنه لا يكتبها ويكتفي بالتحدث عنها، إما لأنه كسول، وإما لأنه أناني لا يريد قراء يشاركونه في الاطلاع عليها، وإما لأن حديثه عنها يجعله يشعر بأنه قد كتبها فعلاً. وقد التقيته قبل أسابيع مصادفة، فبادرني قائلاً: أتمنى الآن أمنية واحدة فقط.
فابتسمت ابتسامة العارف بأمنيته، وسألته: أتريد أن تحتل الجيوش الأجنبية البلاد العربية كافة وتوحدها في خمسين دولة وتدمقرطها وتنظفها من بعض سكانها؟
قال: أنا لست خيالياً إلى هذا الحد، ولكن الجيوش الأجنبية لو تابعت اهتمامها بالشؤون العربية لسادتها الفوضى وبات جنرالاتها يطيعون جنودها.
قلت: وما هي أمنيتك الواحدة الوحيدة؟
قال: أن أصير شجرة.
فقلت متسائلاً بفضول: شجرة في حديقة أم في شارع أم في حقل أم في مقبرة؟
قال: كل الأمكنة لدي سواء. المهم أن أصير شجرة.
قلت: كل الناس يتمنون أن يصيروا من أصحاب الملايين والمليارات، فلماذا أنت شاذ عنهم؟
قال: لو أصبحت غنياً لارتبطت حياتي بالعملات الأجنبية، فإذا صعدت أسعارها فرحت وزغردت، وإذا هبطت حزنت وخططت لشراء قبر ضيق.
قلت: ولكنك إذا صرت شجرة، فستحتلك الغربان، وتنعب وهي جاثمة فوق أغصانك.
قال: ولماذا تتناسى أن العصافير أيضاً ستحط على أغصاني وتغرد؟
قلت: أتعرف ما سيحل بك إذا صرت شجرة؟
قال: سأزهر وأثمر.
قلت: كأنك نسيت أن الشجر يهرم ويشيخ، ولا نجاة له من فؤوس الحطابين.
قال: فؤوس الحطابين تأتي فقط في الفصل الأخير من حياة الشجر، أما فؤوس الحطابين في الحياة اليومية لسكان الأرض العربية، فهي تهددهم في كل لحظة، ولا يدري الناس متى سيطاح برؤوسهم.
وهذا اللقاء بصديقي كان آخر لقاء إذ اختفى بعده اختفاءً غامضاً فسرته بأنه قد نال ما تمنى وصار شجرة، ولم أعد أدهش فيما بعد من سلوكي تجاه الشجر، فكلما رأيت شجرةً حملقت إليها بفضول وحاولت محادثتها.
لندن