الأمر ليس كما يبدو للوهلة الأولى، على حد المقولة المأثورة. وفي البرمجة العصبية، الخارطة ليست هي الواقع. ولكن موسيقى للبؤس تتردد معزوفتها في ثنايا حياة أقوام منا، كلازمة لا فكاك منها.
تجنح أذهاننا نحو إنشاء رسومات فائقة الروعة للتجارب المزمع خوضها سلفا، وما إن نلج تلك التجارب، إلا وتبرز نصب أعيننا تلك الرسومات لاتخاذها أسوة للتجربة، يتحتم علينا مضارعتها. ولا يقتصر الأمر عند ذاك، بيد أننا نكيل الملامة لأنفسنا لحظة أدنى مجافاة لتلك الرسومات، ولو قيد أنملة. وحيث إن الكمال متعذر المنال في كل المجريات، فإن الندامة مصيرنا الحتمي في نصيب الأسد من تجاربنا.
بحوزتنا سيناريوهات مكتملة النصاب، وناصعة الجمال، لكل الوقائع: يوم جميل، نشاط جميل، إنجاز جميل، تجربة جميلة. وفور استهلال ذلك اليوم، أو النشاط، أو الانجاز، أو التجربة، نتناول تلك السيناريوهات من أرشيف أذهاننا لمحاكاتها. نقلبها للعثور على ما يتوجب صنعه. وبعد الفحص، والتنقيب، والمجيء على الملف بحذافيره، نهرع شاحذين قوانا لتنفيذ خلطة الجمال الأرشيفية المبيتة. وأيما إخفاق , لو طفيف، في ذلك، فستكون عواقبه وخيمة، والحسرة متربصة بنا في نهاية المطاف. أي أننا نمتشق أسلحة الخيال كي ندحر جحافل الواقع. ولكن الأخبار المؤسفة أن الواقع هو المتغلب في معظم الأحوال. ولا يمكن لعيد أن يستمر إلى الأبد، وفقا لميلان كونديرا. إنه الشطر السقيم من أفكارنا يقوم بالإعلان عن نفسه.
أفكارنا القلقة، وانطباعاتنا المثالية عن الحياة، تقتات من مخزون سعادتنا. نستشيط غيظا، وياللغرابة، فيما لو سارت الأمور خلاف حسباننا: كما في تلف ِإطار في عرباتنا، أو لدقائق نستأخرها عن مواعيدنا، أو لبقعة ضئيلة لطخت ثيابنا، أو حتى لقصورنا عن اللحاق بالحانوت قبيل الإغلاق للفريضة، أو لأي أمر لم يأت على هوانا، ناهيك عن المخططات الجسام. وقبلذاك، كنا نكون مسكونين بالقلق حيال النتائج. فنحن إذ ذاك بين جحيمين: جحيم القلق المسبق، وجحيم الندم التالي. وما بين ذينك الجحيمين، تتبدد حياتنا سدى هكذا دواليك.
وجبات كاملة الدسم من المنغصات نتجرعها بكرة وعشيا جراء نزعتنا الضالة للكمال، والأعباء التي تنوء بها عواتق مقدرتنا. أوهامنا فرش رسم بارعة، أحالت دواخلنا إلى مرسم حامي الوطيس. ويناط بنا طلاء تلك الرسومات بالألوان التي تضخها بالحياة.
حياكة تفاصيل الوقائع في أذهاننا كما يحلو لنا، باتت كما لو أنها واجب علينا الانصياع له، مثلما يتعين على المريض تناول جرعته كيما يتماثل للشفاء. إنها أثمان نوفيها مقدما، ثم ندأب للمصادقة على الفواتير المدفوعة، عبر محاولات شاقة لتجسيد المبتغى في تلك التفاصيل.
كل امرئ منا قد توهم لذاته الشرِهة حياة ممعنة في الفخامة. ولا نرتضي فيما لو جاءت خلاف ذلك. ولو أن الأمور بدت كما لو يشاء لها كل فرد منا، لغدا سكان الكرة الأرضية كأسطورة إغريقية، وليسوا بشرا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.
لا يكمن السرور في فرض المفروضات، ناهيك عن تتبع الوصفات المعلّبة، ولا حتى التطلع إلى إناء الآخرين. لا شأن لذوي الحنكة بصنائع الآخرين. السرور ينبثق من حبنا لأنفسنا، وكل ما تأتي به، كائنا ما كان، ومودة حياتنا بأسرها كيفما تجيء. وبطبيعة الحال، ستمضي هذه الحياة قدما ما بين مد وجزر، أبد الدهر. العالم لم يصنعه السعداء، كما لم يصنع لهم، كما زعم أنطونيو غالا.
ديدن السعداء الانعتاق من أصفاد المفروض التي يكبل الناس بها أنفسهم، وإدارة ظهورهم للندم. لا مكان هاهنا للمثاليات. قيمتنا لا تقرها إنجازاتنا، أو نجاحاتنا. في الأقل، هذا ما يتراءى لي. ومن ذهب به الفكر صوب هذا المسار فستناله أيما مشقة. قيمتنا تتمخض من دواخلنا، وجمال أرواحنا، ومقدار إنسانيتنا. إنها أنفاس حياتنا الشغوف التي ما انفككنا نرفل بها ليل نهار.
الرياض