عندما أتاني الصوت الخشن من بين عشرات الأصوات المتداخلة، الصوت الخشن نفسه الذي لا يغادر ذاكرتي منذ ثلاثين عاماً، تحسست وجهي، لم أتحسسه فقط، بل وحميته بكفين غطى ظاهرها شعر أربعيني كثيف ومشيت نحو الصوت، وبين جموع محتشدة من الباعة والمشترين والمتطفلين أمثالي عصر كل جمعة في سوق الحراج المستعمل تغلغلت بهدوء بينما الأنفاس مع رائحة عرق الحمالين ولهيب حر يوليو تتغلغل وتحاصر وجهي المختبئ خلف كفين شاخصتين بأصابع كقضبان، وعيناي بالكاد تتلصصان على الوجوه التي تعبر وسط الزحام، وما إن وصلت مركز حلقة البيع حتى تخلت عني أذناي تماما، فلم أعد أسمع سوى الصوت الخشن نفسه الذي يهدر من مدرس الصف الثاني الابتدائي في أذني لثلاثين عاماً:
- (وش جابك صف ثاني يا مستجد؟) فيما لا تجد عيناي من بين القضبان سوى محرّج للمستعمل يمسك مسجلة قديمة ويصرخ: عشرين.. عشرين، من يزود؟ لحظات صمت مرت لأجد كفي اليمنى تهوي على خده الأيسر بكل قوة الأربعين، بينما كانت يسراي تدافع بضعف عن خد أيسر لطفل أخطأ فصله في يومه الدراسي الأول.