يمثل (غازي القصيبي) حالة ثقافية خاصة، فهو الشاعر، وهو السارد، وهو الأكاديمي، وهو الباحث. ورغم أنه أمضى نصف قرن في الخدمة العامة: أستاذاً وعميداً ورئيس مؤسسة وسفيراً ووزيراً لأربع وزارات، إلا أنه ظلّ المثقف المبدع، المثير إن كتب وإن صمت، والمثري إن شَعر أو نَثر.
و كما حالته الخاصة، فإن أوراق البدايات لا تغادر أدراجها إلا حين يكتبها (غازي) فنقرأ (البراعم) لفتى لم يجاوز الحُلْم، فإذا الشاعر مخبوء في قلب طفل، ومتوسد طفولة قلب، وغاز لعروبة فتى، وحنين مراهق، (البراعم) قصائد نمت في أزمنة وأمكنة مختلفة، سجلت ولادة السطور الأولى، وقدمت لنا الشاعر الكبير حينما كان يافعاً في لوحات شعرية كانت البدء لرحلة عطاء وتوهج لم تجرب الانطفاء.
في الحوار مع الدكتور (غازي القصيبي حول البراعم) ألق البدايات وشجنها، وتنشره الثقافية متزامناً مع نشره في مجلة (أحوال المعرفة) في إطار التعاون بين المطبوعتين.
الأخير
* الديوان الأول صدر أخيراً، فهل هي العودة إلى الأوراق القديمة؟
- كلا، هي عودة إلى الأيام القديمة، أيام كان القلب يخفق بحب جديد مع كل يوم جديد ونظرة جديدة، أيام كانت الهموم العربية تشغل قلوب الشباب، قبل مزاين الإبل، و(الأرقام المميزة) والشعر النبطي الركيك، أيام كان للحياة طعم الفجر البكر المليء بالأسرار الواعدة، أيام كان الشعر يتدفق لا يحسب حساباً لناشر أو ناقد أو مدرسة أدبية، أيام كان الشاعر يعتقد أن بوسعه تغيير العالم، وكان العالم يتآمر مع كل شاعر على التغيير، هي عودة إلى الحديقة اليابانية في حلوان، وجزيرة الشاعر في الجنينة، وسور الأزبكية، هي عودة للدولة العربية الواحدة التي ستظهر بمجرد أن نقرع الباب، هي عودة إلى الأمة العربية الواحدة التي ستبزغ بمجرد اختفاء الاستعمار.
يا أختاه، هي عودة إلى الأجمل والأنقى والأصفى في قلبي إلى رحلة ما قبل التلوث، تلوث الروح وتلوث المشاعر وتلوث الشعر.
ملعقة الذهب
* الأم في البراعم طيف مرتبط بالفراق والوجع والجراح:
أماه! آهٍ من جراحات الفراق الموجع
والناس يقولون: ليت لنا حياة غازي الذي ولد وفي فمه ملعقة ذهب؟
- أعتقد من الناحية العلمية أن الذي يولد بملعقة من ذهب، أو أي معدن آخر في فمه سيموت لانسداد مجرى الحليب!.
وأنا على أية حال ولدت ولادة متعسرة لم تكن بعيدة عن ولادة أبو شلاخ البرمائي (سيجيء الآن من يقول أن أبو شلاخ هو أنا، فليقل!!) لم أشر يوماً ما إلى أنني أنتمي إلى طبقة ذهبية أو مخملية، لم تكن حياتي تختلف كثيراً عن حياة من حولي من أطفال. لم يكن الفارق ملعقة ذهبية، أعتقد أنه كان قدراً كبيراً من الحساسية علم الطفل الحزن قبل أن يعلمه الضحك، ودربه على الانزواء بدلاً من تشجيعه على المخالطة، وجعله يفضل منادمة الكتب على منادمة الناس. في هذا الصدد، لا أظن أن الطفل قد تغيّر كثيراً.
طفل كبير
* طفل يخاطب أمته:
نامي على الشفق المخضب بالدم
وتألمي فالمجد أن تتألمي
كيف تفاعل الطفل بإشارة وعبارة لم يتجاوزها الكبار، رغم مرور نصف قرن عليها؟
- المسألة ليست هنا، قيل في الجزائر ما هو أجمل بكثير من شعر صاحبك (الطفل). السؤال هو: لماذا تبقى الجزائر بعد نصف قرن نائمة على شفق مخضبة بالدم؟ ولماذا ظلت الأمة العربية نصف قرن تتألم بلا جدوى؟
لا أعرف الجواب، ولكني أعرف أنني أحياناً أتمنى لو وقف التاريخ، لو لم يستقل من استقل، ولم يطغ من طغى، ولم يهزم من هزم.
شعر الطفولة
* (البراعم) شعر طفل لم يخاطب الطفولة: ألا تفكر أن تقول الآن شيئاً للطفل؟
- البراعم ليست شعر طفل وليتها كانت، ولو كانت لجاءت بيضاء كحليب الأم، هامسة كخرير الجداول وبريئة كأحلام دمية شقراء، البراعم شعر مراهق ولهذا جاءت بكل أنواع البراكين التي تنفجر في وجه الحبيب.. وفي وجه المستعمر!
لا أستطيع أن أقول شعراً للطفل، أنا لم أبلغ هذه القمة من قمم الموهبة، ولا أتوقع أن أبلغها.. أكتفي بأن أرفع كل دواويني تحية لكل شاعر جرؤَ على مخاطبة الأطفال شعراً ابتداءً من أمير الشعراء (الذي كثر منافسوه على اللقب) وانتهاءً بأستاذي الكبير الشاعر سليمان العيسى، الحق، أقول لكم: شاعر الأطفال هو أمير الشعراء!
المعنى المستتر
* في نفسي معنى لا يفهمه باقي الناس هكذا قلتَ في البراعم، ألا يزال هذا المعنى مستتراً؟
- في أيام البراعم... وفي أيامي الخريفية هذه، وفي كل زمان ومكان.. يبقى أجمل شعر للشاعر، ما لم يكتبه، وتظل أقوى مشاعره تلك التي لا يفهمها أحد، وتظل أجمل معانيه تلك التي ترفض دخول بيت الطاعة: الألفاظ!
شعر وشعير
* ألهاك الشعير عن الشعر، وافتقدنا حضور المبدع في أمسيات وندوات وحوارات وكتابات، ألا تتفرغ لنا قليلاً، وتدع الكفالات والتأشيرات؟
- المثل الذي أعرفه، في هذا السياق، يقول: (حال الجريض دون القريض)، والجريض هو الموت منحنا الله وإياكم حسن الختام، أما القائل فهو شاعر جاهلي تعيس قرر النعمان قتله يوم وصل في يوم نحسه (نحس النعمان لا الشاعر!) ولكنه أراد قبل امتصاص دمه أن يستمتع بشيء من شعره (انظري كيف تتطور السادية فتصبح فناً رفيعاً!) إلا أن شاعره رفض وقال ما قال.
أما عن الشعير الذي يحول دون الشعر فلعله مثل جديد أفرزته أزمة الشعير والدقيق، كما أفرزت حقيقة أننا سنظل على الأبد مع الإدارة بالأزمات.
يا أختاه! أنا أحترم الندوات والحوارات واللقاءات ولكني لا أحب حضورها: ليس عندي علم غزير أفيض منه على علم المجتمعين، ولا أظن أن عندهم ما يمكن أن أتعلم منه شيئاً، دعيني في ركني مع كتاب قديم أو ديوان جديد، فهذا أفضل لي وأنفع للقراء.