حين نكرّم. أحد أبناء البلاد العربية، إنما نكرّم البلد ورجاله.
وتفي صحيفة (الجزيرة) السعودية ديناً للبنان وإسهامه في النهضة الثقافية المعاصرة، وبذلك نشد هؤلاء إلى حضن الأم الذي لم يتخل اللبنانيون عن حنان وتضحية.
وعميد الصحافة (غسان تويني) غصن وريف من شجرة الأرز اللبنانية، غسان النبعة يتحدر من الأسر اللبنانية التي رعت الفكر والثقافة كأسرة جرجي زيدان مؤسس (الهلال) النازحة من منطقة (حوران) وعلى إيقاع الألف والنون الذي يجمع (غسان وقحطان وعدنان) ولبنان عزفت هذه الأسر أروع سيمفونية فكرية في تاريخ الحضارة ماضية وغابرة، ولا يضيرنا أن يظل لبنان تاريخاً يحافظ على كيانه واستقلاله ما دام جهده يصب دائماً في بوتقة أمه الحاضنة العروبة النقية التي استعصت عبر تاريخها على التبعية والولاء. ويشاء القدر أن تورث هذه الأسر ما كسبته من تواصلها مع العالم من فكر وثقافة ومنها أسرة (التويني) وجدّها (جبران) المؤسس لأكثر من صحيفة حتى أسلم الراية لغسان ليسلمها بدوره إلى ولده (جبران) لكن القدر يشاء أن ينتزعه ويردّ الإرث إلى المورث.
شاء الجد أن يزودّ عميد الأسرة بثقافة متميزة، فانتسب إلى الثانوية الأميركية، ثم تحوّل إلى الدراسة في أرقى جامعات الغرب، وبرز في تحصيله. وعاد إلى لبنان عام 1947م بعد وفاة والده ليتابع مسيرته الصحافية، وتقلّد مناصب عديدة لكنها لم تصرفه عن رسالته الأولى وهي الصحافة، فهو يعدّ نفسه صحفياً ومثقفاً متعدد الجوانب الثقافية. ولعل أبرزها حبه الأدب والشعر والفلسفة، وظل طموحه الدائم أن ينهض بصحيفته (النهار) فيجعلها منبراً للفكر الحر والتعددية الفكرية، فاحتلت الصدارة بين صحف الوطن العربي. وشدّت رجال الفكر إلى خطّها المنفتح والمستقل في وطن يقوم على طوائف متعددة.
وحوّلها إلى صوت للديمقراطية اللبنانية التي شع نورها على العالم العربي، فاحتذتها محطات التلفزة والصحف نموذجاً للفكر المستقل الذي يحترم القارئ والكاتب، ودعا اللبنانيون باستمرار في مرحلة الحرب الأهلية إلى التسامح والحوار وشجاعة الاعتراف بالحقيقة.
كان هذا شأنه بعد الحرب يملك دائماً شجاعة توجيه أي اتجاه مغالٍ أو متطرف وخاصة في الأزمة المحتدمة بين الموالاة والمعارضة. فكان ضد الجميع ومع الجميع وفوق الجميع، وما كان أقسى مهر هذه السلطة الرابعة التي دفع ثمنها فلذة كبده وفاء لمحبته لوطنه.. فحين تكرم (الجزيرة) هذا العملاق، فإنما تؤدي ديناً لإنسان تجاوز قلبه الكبير كل حقد تجاه أولئك الذين لا يفهمون الحياة إلا عنفاً وتصلباً.
***
ومما يثلج قلوب القراء في المشرق العربي والإسلامي مبادرة صحيفة (الجزيرة) السعودية إلى إصدار ملف خاص من المجلة الثقافية في جزأين رقم (236-237) من إعداد الإعلامي المبدع (عبد الكريم العفنان) ضمن احتفالية هذه الصحيفة في تكريم عميد الصحافة اللبنانية والمفكر والأديب والشاعر (غسان تويني) وهي بادرة تستحق كل تشجيع ومتابعة لأسباب متعددة منها: أن مشاركته لعدد كبير من السياسيين وأعلام الثقافة والفكر والأدب في الكتابة عن هذا المناضل العتيد الذي عزّز مكانة السلطة الرابعة في الحياة، لم تقتصر على استعراض جهوده الثقافية والإعلامية بقدر ما كانت مداخلات قيمة تناولت واقع الصحافة والإعلام وتاريخها وأثرهما في دفع مسيرة المجتمعات العربية والإسلامية والصعوبات التي يواجهها المثقف العربي عامة والصحفي خاصة في الدفاع عن الحق والحقيقة ليكون شاهداً أميناً على عصره، لا يبيع قلمه في سوق النخاسة الفكرية و(الاستزلام) السياسي، ومنها أن هذه السلطة الرابعة التي استهدفت في نشأتها الدفاع عن حرية الإنسان وكرامته قد أصابها التلوث، فكان لابد من وقفة متأنية تضبط مسيرتها وتفضح الصور المتعددة لانحرافاتها بتأثير صراع القوى المتناحرة.
لقد أحسنت صحيفة (الجزيرة) صنعاً، إذ وسعت دائرة استكتاب الأعلام، فشملت عدداً من الدول العربية والأجنبية، وراعت التنويع في التوجهات والانتماءات الفكرية والسياسية، فشملت القائمة شخصيات سياسية وفكرية تعارض تطلعات (غسان تويني) إلى حد الخصومة، لكنها تقر وتعترف ما للرجل من أثر كبير في حياة لبنان الثقافية والسياسية، وجهد لا يجحد في تأسيس صحافة عربية ناضجة ومتطورة، تستجيب لمتطلبات العصر، وترسخ رسالة السلطة الرابعة في العالم العربي، وتحررها من الولاءات العابرة. وطبق رؤيته من خلال تطويره صحيفة (النهار) التي أسسها والده (جبران تويني) فكانت أول نموذج للصحافة العربية الحديثة بمنهجيتها واستقلالها ومستوى أخبارها وتحليلها، حتى أصبح لها من السيرورة والانتشار ما جعلها تمثل الصوت العربي النقي والحر على مدى خمسين عاماً، وضمن لها هذا الانتشار المدد المادي الذي جهد (غسان) أن يجعله مورداً مشتركاً يعود للمساهمين في رأس مالها.
ويعترف الأستاذ (نبيه بري) في كلمته بأستاذية (غسان) وحكمته فيقول: (أشهد أني في كل نهار استجير بالأستاذ غسان تويني، لأنه الأكثر انتباهاً إلى أن لبنان مسؤولية كبرى لأنه رسالة، ولأنه أصغر من أن يفتت، وأكبر من أن يقسم، وأوسع من أن يضيق بالعرب، ولأن غسان بيت على صخر، ولأن لبنان مسؤولية باعتباره نموذجاً للقرية الكونية التي تتعايش فيها وتتحاور الحضارات.
إنه إنسان تزدهر فيه اللغة والإحساس بالمكان والزمان، هو أديب تزدهر فيه حدائق الحب، وكانت تزدهر فيه حديقة الأوطان، وصديق لا تخونه الذاكرة، وأب لا تنطفئ حرقة قلبه...).
ويكتب (عمرو موسى) الأمين العام لجامعة الدول العربية: (يكفي أن تجلس مع غسان تويني لتخوض معه دائماً حواراً شيقاً تكسب في نهايته، سواء اتفقت أم اختلفت في الرأي معه، تكسب رؤية شاملة وتسمع فكراً متقدماً، يقارب غسان الموضوع أياً كان من منظور جامع يفكك ببساطة تعقيداته، يأخذك في استنتاجات واحتمالات متعددة فيغوص دون أن يغرق في تفاصيل لا تسمن ولا تغني. غسان تويني يمتلك رشاقة الكلمة وأناقة اللغة ومنهج الباحث الرصين وحماس المراقب وشغف المعلق الصحافي).
ويخاطبه (دومينيك دوفيلبان) رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق... فيقول: (لقد جعلت صحيفتك رمزاً للديمقراطية اللبنانية، والنهار هي أولاً رمز هذه المقدرة اللبنانية على جعل طوائف مختلفة تتعايش طوال أيام الحرب.. حيث عصفت بلبنان دوامة العنف. كنت تنادي الجميع وتدعوهم إلى التفاهم والإصغاء إلى بعضهم، وممارسة الحوار. وارتفع صوتك ليعلو على أزيز الرصاص وهدير المدافع).
ومن أبرز سمات عميد الصحافة (غسان) شجاعته في قول الكلمة وصبره العجيب على احتمال المحن التي نكب بها في حياته.
يكتب الأمير (الحسن بن طلال): (لقد شاءت أقدار هذا الرجل أن توشّح رحلته الكفاحية بالحزن، الحزن الذي يسمو فوق آلام النفس والوجدان. ويجبّر التسامي انكسارات الروح، الانكسارات التي حلّت بفقدان الأبناء الواحد تلو الآخر (نائلة، ثم مكرم، وأخيراً استشهاد جبران) والأمضى انكسارات الأمة ونكباتها عبر ما يناهز ستين عاماً، بما فيها نكبة العرب في فلسطين 1948م، وتوالي حصارات القوى الكبرى وصراعاتها على امتداد الأمة الحضاري قبل الجغرافي..
لقد كانت حكمة شيخنا المؤمن الصابر تزداد عنفواناً، فالروح وإن أصابها الانكسار أحياناً لا تلبث أن تنهض عزيزة تتسامق إيماناً برسالتها، لقد بقيت قامة الأستاذ غسان تويني شامخة عصية على خذلان الأيام كشجرة أرز لبنان عالية عصية على حلكة الليالي).
وقد ورث (غسان) هذه الشجاعة من والده الذي كانت له صولات وجولات في مقارعة السلطة، ولكن الكلمة آنذاك كانت تواجه بالكلمة لا بالرصاصة، ولم يكن الصحفي يتعرض إلا لأذى عابر من السلطة كالسجن المؤقت أو إغلاق الصحيفة، ولم يكن (غسان) يتصور أن يحكم على الصحفي في الزمن اليوم بالتصفية الجسدية، رضي بالسجن أربعة مرات، وبالمضايقات التي تفرضها إجراءات السلطة عبر تاريخ الصحافة.
تُرى.. هل كان يدور في خلده أنه سيدفع فلذة كبده ثمناً لكلمة حق تدافع عن الإنسان والوطن؟
ومع ذلك تحمّل الفدية الباهظة لصاحبة الجلالة صابراً محتسباً فكان حين قسا عليه الدهر... كما يقول السفير السعودي عبد العزيز الخوجه (يزداد تمسكاً بحبل الله تعالى واختماراً، وهما عنوان الحكمة ورجاحة العقل، فمحنته ليست إلا وجهاً من محنة الأمة وابتلائها، وهو واحد من أبنائها يصيبه ما أصابهم ثمناً للحرية والكرامة، فتعالى على جراحه).
في الملف عدد من شهادات المفكرين والسياسيين والصحفيين الأجانب الذين شهدوا لغسان الصحفي والسياسي بالتميّز، فرأى فيه (مايكل هدسون) أستاذ العلاقات الدولية في جامعة (جورج تاون) (غسان تويني ضمير الصحافة العربية في وسط لا تخلو فيه مهنة الصحافة من خطر بمقدار ضرورتها ونبلها بسبب البيئة السلطوية التي تعيش فيها السياسة المعاصرة في المنطقة. واستطاع عميد الصحافة أن يجعل من جريدة (النهار) منتدى للآراء الأخرى، ولم يكن ذلك سهلاً، وبقي محافظاً على التزامه الصحافة النزيهة والموضوعية. إضافة إلى نشاطاته الأخرى مثقفاً وباحثاً وداعية للإصلاح الديمقراطي، ومجادلاً صلباً في التوجهات العلمانية والطائفية والإسلام السياسي، ونصيراً لليبرالية على مدى مسيرته الطويلة).
كما رأى فيه (بوريس بولتين) أحد المسؤولين في وزارة الخارجية الروسية (شخصاً متنوراً بامتياز، وممثلاً للشخصية اللبنانية إلى حد بعيد في أفضل سماتها المتميزة).
ويشهد الأمين العام لمنظمة (مراسلون بلا حدود) ل (غسان) بأنه (واحد
من الأسر اللبنانية التي ورثت مهنة الصحافة لأبنائها جيلاً بعد جيل، فكان الوحيد الذي استجاب لنداء منظمته في تعزيز مسيرة الحرية، ودفع ثمن استقلاله - بالعملة الصعبة -).
ويكتب عنه (هنري لورنس) الأستاذ والمؤرخ في جامعة ال سوربورن (تأثرت بالغنى الإنساني عند هذا الرجل الذي كان في آن صحفياً كبيراً ومثقفاً لامعاً وشخصية سياسية، وبصفتي مؤرخاً كان يروي لي طرائف تتعلق بإقامته في الولايات المتحدة إبان الأربعينات، وقد سألته مطولاً عن شتى أحداث حياته السياسية، فأثريت معرفتي في مجالات عديدة).
وتحت عنوان (غسان تويني كما عرفته) يكتب الصحافي البريطاني المشهور (باتريك سيل) (كان دائماً أكثر من صحفي محلي، وأشد انفتاحاً على العالم العربي، وكان تعليمه وفضوله الفكري وقراءاته الواسعة وتطلعه الكامل في الإنكليزية والفرنسية فضلاً عن العربية قد أتاح له أن يغدو هائل الثقافة واسع الاطلاع مع شغف ليس بالتاريخ والشؤون الدولية فحسب بل بالأدب والشعر أيضاً).
ويكتب (جان لاكوتور) المؤرخ والكاتب الصحفي الفرنسي (لو نظم استفتاء بين أفضل الخبراء في الشرق لتسمية الرجل الأقدر الآن على تمثيل المجموعة العربية والاهتمام بها والدفاع عنها. وعن حقوق العالم العربي لدى جيرانه المتنافسين وأعدائه.. لاعتقدت أن غسان سيحتل المرتبة الأولى).
أما الصحفيون من أقرانه في العالم العربي، فقد أجمعوا على تميزه. وفضله في خدمة الثقافة والإعلام. واعترفوا له بالريادة عن جدارة.
فقد تحدث (ياسر عبد ربه) رئيس دائرة الثقافة والإعلام في منظمة التحرير الفلسطينية عن (غسان) فيقول (لم ينحصر نشاط غسان الصحفي والسياسي في إطار الوطنية اللبنانية، بل عالج مشكلات المنطقة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي بما في ذلك قضايا الإصلاح والتنمية والديمقراطية في العالم العربي).
ويكتب (رياض نجيب الريس) الذي عمل في (النهار) زمناً، ورافق غسان في مسيرته الصحفية: (إنني كنت من جيل المحظوظين الذين عاشوا هذا العصر، وعملوا في صحافته، وقد وفّرت لي (النهار) مجموعة تجارب وفرص صحافية ما كان لها أن تتوافر لي في مكان آخر، والفضل في ذلك يعود إلى رجل واحد فقط اسمه (غسان تويني)، مهما اختلفت فيما بعد المواقع المهنية لكل منا. وفرقت المواقف السياسية بيننا).
ويقوّم (ناصيف حتي) جهود العميد الثقافية والإعلام فيكتب: (جمع غسان بشكل رائع بين الدبلوماسية كفن وعلم البحث المستمر للإحاطة بكل جوانب المسائل القائمة اليوم بثوابتها ومتغيراتها وفرصها وأطرافها المباشرة وغير المباشرة، وكنت شاهداً على ذلك حين رافقته وأنا أنهي أطروحة دكتوراه، متدرباً ومتعلماً منه العمل الدبلوماسي).
وفي الملف شهادات للأدباء العرب، تعترف للرجل بالوطنية الصادقة والريادة الثقافية والأدبية.. فيكتب (أدونيس) (أتعلم من كتابات غسان وحياته كيف أقرأ لبنان.. بيته ووطنه. الأفكار في ذاتها هي موضع اختبار دائم لكي تحيا، كما لو أنها تنبجس من الواقع لا مطلقات المطلق).
وتكتب (خالدة سعيد) (غسان نصير العبقريات النسائية وحاضن نتاجها، إنه يقدم مثالاً فريداً في عالمنا العربي لما كرسه لزوجته الراحلة الشاعرة (ناديا تويني) وما وقف باسمها من مدارس ومستشفيات وأقسام).
وتشهد الشاعرة (سعاد الصباح) (في غسان تويني شيء من كل شيء، فيه عبقرية الكلمة، وجموح الريح، وسكينة العاطفة, وغضب الفرح، وغصة الحلم، وانكسار الرمح، وثورة المهزوم، فيه كل ما تريده للبطل في مزايا، ولكنه يصر على خلق البطل في سواه).
ولرجال الدين من مختلف الطوائف شهادات واعتراف بفكر غسان وريادته، فيكتب العلامة (محمد حسين فضل الله) (من هؤلاء الذين اجتذبتهم دنيا المعرفة، وأغوتهم مسيرة التحصيل والعطاء في ميدان المعرفة السياسية والأدبية، غسان الذي خاض التجارب السياسية والحزبية بمرارتها المعروفة في لبنان، ثم دخل المعترك الدبلوماسي في المراحل التي كانت ترسم فيها الحلول لبلدنا وفق ما تقتضيه مصلحة الكبار الذين تقاسموا العالم وأرادوا لمنطقتنا العربية والإسلامية أن تكتوي بنار حربهم الباردة).
وعندما انتهي من قراءة ملف تكريم غسان.. أشعر كأنني أفارق واحة جميلة غرستها أقلام المبدعين، وللكاتب غسان تويني كل تقدير ومحبة، وقد شاركته بدموع الحزن ذرفتها على جسد ولده الراحل، وسيظل عزائي أنه أكبر من الحزن وأعظم من أن تثنيه المحن عن متابعة جهاده ونضاله.