من الواضح جداً أن البلدان العربية الخليجية كلها تهتم بالثقافة وترصد لها ميزانيات هائلة، ولذا لا نستغرب من الكم الكبير للجوائز وبمبالغ مجزية يمنحها كل بلد، وهناك جوائز مهمة لا تمنح باسم الدول بل باسم شخصيات وأسر ثرية لها دورها سواء في الاقتصاد الخليجي أو اقتصاد بلدانها، كما أنها تساهم في بناء المستشفيات والمدارس وبيوت العبادة والمتاحف كما ترصد مبالغ للجوائز، أذكر هنا على سبيل المثال عائلة العويس في الإمارات وباشراحيل في المملكة العربية السعودية وجوائز سعاد الصباح وعبدالله المبارك والبابطين في الكويت وغيرها.
وفي زيارتي للبحرين كانت الدعوة الموجهة لي من الملتقى الثقافي الأهلي هناك، وتميل صفة الأهلي على أن هذا الملتقى ليس تابعاً لجهة رسمية بل هو أحد المشاريع التي أنجزتها أسرة كانو ذات الحضور في الخليج العربي وإحدى أبرز الأسر البحرينية المعروفة ومن أثراها.
ولذا فإن الرئيس الفخري لهذا الملتقى الثقافي الأهلي هو الوجيه عبدالعزيز جاسم كانو أحد أعمدة هذه الأسرة.
لكن الملتقى ينتخب مجلس إدارة كل ثلاثة أعوام وبتشكل المجلس الحالي للدورة 2007 - 2007 من الصديق الشاعر الكبير المعروف علي عبدالله خليفة رئيساً لمجلس الإدارة. كما يضم المجلس نخبة من المثقفين البحرينيين وهم الأساتذة مبارك العطوي (نائباً للرئيس) عيسى هجرس (أميناً عاماً). علي الرويعي، طارق أحمد عبدالغفار، عبدالله عمران، عبدالوهاب العيسومي، والسيدتان الأديبتان فاطمة محسن وهنادي الجودر.
وقد خصّت الأسرة المشرفة (كانو) الملتقى ببناء حديث لائق فيه قاعة للأنشطة الثقافية والعروض الفنية، وفيه أيضاً مكتبة وقاعة مطالعة. أما النشاطات المتنوعة للملتقى فتضم الأمسيات الشعرية. وحفلات توقيع الكتب ومعارض الرسم والحوارات المفتوحة. إلى واقع الجامعات الخاصة في البحرين إلى الأدب الشعبي إلى مقهى الشباب الثقافي ونشاطات أخرى.
وبرنامج الشهور الأربعة الأولى لهذا العام الذي بين يدي يظهر أن هناك برمجة ثابتة بمعدل أربع فعاليات كل شهر. والمساهمون فيها إما من البحرين أو من الضيوف العرب سواء القادمين أو المقيمين في البحرين.
إن قراءة تاريخ الأسر الثرية ذات الدور هي في الآن نفسه قراءة لتاريخ منطقة الخليج العربي ويعكس كما يقول أحد أقطاب هذه الأسر خالد محمد كانو في كتابه التوثيقي (بيت كانو - قرن من الأعمال التجارية لشركة عائلية عربية). ويقول أيضاً في تقديم كتابه: (فهو - أي تاريخ الأسرة - يوضح التحول المذهل لمجتمعات الخليج التقليدية الفقيرة إلى دول غنية بثروتها النفطية ومواردها البشرية).
أما الشاعر والروائي الكبير الدكتور غازي القصيبي السفير والوزير الحالي في الحكومة السعودية والذي تربطه صلة قوية بهذه الأسرة وبالتغير الذي حصل في الخليج العربي فيقول، من كتاب خالد كانو حول أسرته: (سوف يستفيد من هذا الكتاب قراء عديدون، سيجد المؤرخون كما غنيا من المعلومات، وبوسع الغريب عن المنطقة أن يعتبره دليلا لكيفية التعامل مع أبناء المنطقة. وسوف يجد فيه القارئ العادي صورة مدهشة عن مجتمع يتحول بسرعة).
والكتاب يروي بصراحة مطلقة كيف بدأت هذه الأسرة - وهي نموذج بحريني - بدايات بسيطة لتنتهي إلى هذا الدور التجاري والمالي لا في بلدها فقط بل وعلى مساحة كبيرة من بلدان العالم وبشكل خاص الخليجية (الإمارات، السعودية، قطر، عمان، والكويت).
وقد وضع الإخوة المنظمون في برنامج زيارتي الذي شمل عدداً من المرافق الهامة بينها بيوت الشيوخ الأولى، ومتحف البحرين الوطني الحديث البناء، وبيت القرآن (وهو متحف أيضاً ويستعمل كفضاء ثقافي للندوات والمحاضرات. وقد علمت أن أسرة كانو هي التي أقامته). أقول وضعوا في البرنامج زيارة للرئيس الفخري للملتقى الوجيه عبدالعزيز جاسم كانو في مكتبه وذهبت إليه رفقة صديقي الشاعر علي عبدالله خليفة. وقد رحب بنا الرجل خير ترحيب، وعندما علم أنني أقيم في تونس منذ عقدين من الزمن تحدث عن زياراته لتونس العاصمة وجزيرة جربة. والصناعات التقليدية التي استهوته مهارتها فاقتنى منها عدة مقتنيات يحتفظ بها في منزله.
وتحدث الرجل عن التحولات السريعة التي تجري في المنطقة، والجيل الجديد المتسلح بالعلوم الحديثة ونظرته السابرة للآتي وبطموح لا يحدّ.
وعندما قدم أحد أبنائه الشبان لتحيتنا قال: جاءني ابني يوماً وطلب مني مبلغاً مالياً كبيراً. وعندما سألته: ماذا سيفعل به؟ قال: سأشتري البحر.
ثم ضحك وهو يقول: ووسط دهشتي أعطيته المبلغ ليشتري البحر فيحوله إلى أرض واسعة شيدت عليها عمارات وحدائق وبيوت ومدارس.
أي أن مساحة هذا البلد العربي الصغير لم توقف الطموح فردموا البحر لكسب مساحات جديدة من الأرض.
وكان الرجل سعيداً بهذه النشاطات الثقافية الموازية التي يجري الإشراف عليها من قبله شخصياً، وقد استحدث جائزة ثقافية عربية سميت جائزة يوسف بن أحمد كانو للتفوق والإبداع. وقد منحت جائزة دورتها الأولى للكاتب خالد بن سليمان الخويطر وعن كتابه (جهود العلماء المسلمين في تقدم الحضارة الإنسانية).
وقدم لي نسخة منه هدية موقعة باسمه من هذا الكتاب الذي طبع طباعة راقية.
وقد قلت كلمة طيبة في مشروع كهذا، إذ إن كثرة الجوائز مهما قيل فيها هي دليل عافية مادام الذين يحصلون عليها من الأدباء والباحثين.
أما الحياة الأدبية البحرينية ففيها حيوية واضحة فهناك أسرة الأدباء والكتاب وهي من أعرق المكونات الثقافية في الخليج العربي (هي ورابطة الأدباء في الكويت) وقد عاشت سنوات طويلة بدون مقرّ رغم أنها كانت تصدر مجلة طليعية رائدة هي (كلمات) ولا أدري لماذا توقفت وبدأت تصدر مجلة فصلية شبابية بعنوان (كرز) عن هذه الأسرة، وهذا عدا نشاطات وزارة الإعلام والتراث المعروفة وإصداراتها الراقية وعلى رأسها مجلة (البحرين) الفصلية.
إضافة إلى الدور الذي تلعبه الجامعة التي يرأسها الآن ناقد معروف هو د. إبراهيم غلوم وقبله د. علوي الهاشمي الشاعر المعروف الذي أنجز رسالته للدكتوراه في تونس التي أقام فيها لهذا الغرض عدة سنوات.
وقد زرتها بمعية الباحث والناقد الجزائري د. عبدالقادر فيدوح الذي يعمل هناك منذ سنوات، وتوجهنا إلى مكتبة كلية الآداب المعدّة على أحدث النظم ويشرف عليها باحث جامعي تونسي مختص هو الدكتور هادي الطالبي الذي أشرف قبلها على تنظيم مكتبة جامعة السلطان قابوس في مسقط.
وتظل العلاقات الأدبية على حيويتها حتى في اللقاءات التي تنظم أسبوعياً في بيوت الأدباء وأشهرها لقاء يوم الاثنين في منزل الباحث أحمد المناعي وقرينته الباحثة عائشة حمد المعاودة التي أصدرت كتاباً جديداً تحت عنوان (أدب الأطفال في البحرين) وهو مجال اهتمامها.
في هذا اللقاء المفتوح لنخبة الأدباء والجامعيين كان لي لقاء مفاجأة مع أستاذي وصديقي الفنان الكبير محمد غني الذي قال لي إنه ما إن علم بأنني هنا حتى جاء، وكان يعاند الزمن بحيويته الإبداعية التي عهدتها فيه.
والتقيت كذلك بباحث وجامعي عراقي لم تجمعني الصدف به إلا في البحرين حيث يعمل مدرساً في كلية الآداب هو الدكتور إسماعيل نوري الربيعي الحامل للجنسية الكندية.
نعود من هناك بكثير من التفاؤل فرهاننا على الثقافة حصننا ومتراسنا الأخير هو رهان في مكانه فهي كذلك فعلاً وسط كل هذه العتمة المخيفة والمجهول الذي ينتظر المنطقة برمتها فكأن مصيبة العراق وجريمة احتلاله بكل أبعادها الدامية مجرد بداية.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7902» ثم أرسلها إلى الكود 82244