ذكرنا في المساق السابق أنها لا تقارن - بحالٍ - الطاقة الإبداعيّة القواعديّة الكامنة في اللغة العربيّة، والمساحة المتاحة للمتحدث بها للتصرّف بلغته وتشكيلها، على قدر مَلَكته اللغويّة، بتلكم القضبان الحديديّة التي يُقذف فيها المتحدث بالإنجليزيّة، حتى إنه لو حاول الابتكار والتوليد في استعمالاته اللغويّة، كما بإمكان مستعمل العربيّة أن يفعل، لقوبل بالاستنكار، والتقريع لمخالفته أنماطها الثابتة، التي لا مجال لتغييرها، وإنْ أدّى غيرها معناها نفسه وبلغة إنجليزيّة سليمة. فإن قيل لماذا؟ قيل: هذه التي استعملتها ليست بإنجليزيّة، أو أنها لا تتماشى مع ذوق السامعين واستجاباتهم. حتى إن متعلّم الإنجليزيّة ليُعلّم عبارات تقال في مناسبات مختلفة، لا يعدوها المتحدث، بل يردّدها كببغاء، أو اسطوانة تسجيل.
وكذلك هي قواعد الإنجليزيّة، لا في علاقات المفردات النحويّة فحسب، بل حتى في علامات الربط، والترقيم، ومواطنها التي لا تبديل لها ولا تحريف في مواضعها.
على أن من أسباب ضعف العربيّة بين أبنائها، إضافة إلى التعقيدات المنهاجيّة التي سلف الحديث عنها في المساق السابق، ضعف معلِّميها؛ لأن هؤلاء المعلّمين مبتلون بعاميّاتهم من جهة، وباللغات الأجنبيّة من جانب آخر، وبالإعلام من جوانب كثيرة، وبتعليم ركيك للغة العربيّة في نهاية المطاف ومنذ بدايته. فإذا صلح الكتاب المقرّر، اختلّ عمل المعلّم لضعف تأهيله، وضاع الطالب في طلاسم، لا تزيده إلاّ عمى على عماه.
أقول هذا وأمامي بالمصادفة ملحق (الأهرام التعليمي)، الذي صدر مع عدد جريدة (الأهرام) القاهريّة، السبت 6 من ذي الحجة 1428هـ الموافق 15 ديسمبر 2007م. وهذا الملحق هو للشهادات العامّة في مصر، في الموادّ التعليميّة المختلفة للشهادة الابتدائيّة والإعداديّة والثانويّة العامّة، وهو يعكس صورة حيّة عن مناهج التعليم العامّ في مصر. وبمقارنة ما يتعلّق باللغة العربيّة في الملحق بما يتعلّق باللغة الإنجليزيّة تلحظ جملة ظواهر، هي بلا ريب مشتركة بين مختلف أقطار الوطن العربي، وما هذا سوى نموذج عن واقع اللغة في مركز رائد لتعليمها وتقعيدها وخدمتها قديماً وحديثاً، وقلب من قلوبها النابضة. ومثل ذلك في مناهجنا السعوديّة، التي سبق أن كتبت عنها غير مرّة، ومن ذلك ما تتبّعته في ثلاث مقالات، نُشرت هنا في (المجلة الثقافية)، الأعداد 127، 128، 129، الاثنين 14 رمضان، والاثنين 21 رمضان، والاثنين 12 شوال 1426هـ، تحت عنوان عامّ: (مناهجنا المدرسيّة: تكريس العقليّة التقليديّة ورثاثة الذوق الأدبي).
ومن تلك الظواهر التي نراها في ملحق الأهرام التعليمي المشار إليه - على سبيل المثال لا الحصر - كثرة الأخطاء في العربيّة، لغويّة وإملائيّة. وذلك في مادّة تعليميّة تُقدّم للطلبة، فكيف بما سوى هذا المجال من مجالات استعمال اللغة؟! وذاك كأنْ يُقال لطالب المرحلة الأولى من الثانويّة العامّة: إن اسم الفاعل من الفعل المعتل الآخر هو مثل: (سعَى- ساعي، دعا- داعٍ).
فبأيّ هذين سيأخذ الطالب: (سعَى- ساعي، دعا- داعٍ/ سعَى- ساعٍ، دعا- داعي/ سعَى- ساعي، دعا- داعي/ سعَى- ساعٍ، دعا- داعٍ)؟!
ثم يقال له، وفي ملحق هو بصدد تعليمه لغته العربيّة: إن اسم المفعول من الثلاثي الأجوف هو مثل: (باع- يبيع- مَبيع، وحاط- يُحيط- مُحيط)!
ف(مُحيط) لدى معلّم اللغة العربيّة، واضع تلك الصفحة، هو اسم مفعول، لا اسم فاعل! وقد يبدو أن هنا خلطاً بين فعل (حاط)، (بالحاء المهملة)، و(خاط- يَخيط- مَخيط)، (بالخاء المعجمة). وعليه سيذهب مستقبل الطالب ضحية هذه النقاط وهذا التخليط!
كما سيقال لطالب اللغة العربيّة - ليذهب ضحية نقاط أخرى مرة أخرى: إن اسم المفعول من الثلاثي الناقص هو مِثل: (دعا- يدعو- مدعوّ، وبنى- يبني- مبنى)، (بالألف المقصورة).
وهنا سيقع المتعلّم في بلبلة أمام هذه الكلمة الأخيرة، محلّ التمثيل، أهي: مبنَى، (بالألف المقصورة)، أم مبنيّ (بالياء)؟ ذلك أن الثقافة المصريّة ترفض أن تنقط الياء مطلقًا، وتصرّ على أن تكتبها ألفًا مقصورة أينما ثُقفت، متمسّكة بهذا في كتاباتها، وكأنه خصوصيّة قوميّة، لا ينبغي التنازل عنها أو التفريط فيها بحال من الأحوال!
نكتفي بهذا.
فإذا قارنّا الصفحة المعدّة لتعليم طلاب الثانويّة العامّة لغتهم العربيّة بالصفحة المعدّة لتعليمهم اللغة الإنجليزيّة، لحظنا الفرق الواضح بين الصفحتين. فلا مجال في صفحة اللغة الإنجليزيّة للخطأ، أو الاجتهاد، أو التخمين، أو التعصّب لخصوصيّة إملائيّة قُطريّة ما. كلّ رمز لا بدّ أن يوضع في نصابه، وكل إشارة، أو طريقة كتابة، أو علامة ترقيم، مقنّن موضعها تماماً. لذلك سيجد الطالب منطقاً مطّرداً فيما يُطرح إليه، ونظاماً متّسقاً، يحترم عقله، فيسهل عليه فهمه واستيعابه مهما كان عنه أجنبيّاً.
تلك من معضلات تعليم اللغة العربيّة في العالم العربيّ. وهي جزء لا ينفصل عن المنظومة الفوضويّة الارتجاليّة التي يعيشها هذا العالم.
ومن المعضلات الأخرى كذلك التي يلفتنا إليها الملحق التعليمي المذكور: الإغراق في القواعد النظريّة، على حساب النصوص الحيّة المرتبطة بحياة الطالب المعاصرة. مع التوسّع في تفريعات قواعديّة لا يحتاجها الطالب في المراحل الدُّنيا. فما شأن طالب الثانويّة العامّة مثلاً بحالات عمل اسم الفاعل والمفعول وصيغ المبالغة، ليُطلب منه إعراب صيغ - قد لا يستعملها ولن تمرّ به (في الأحوال الاعتياديّة!)- مثل: (ما مطمئنٌّ قلب المنافق)؟! إنما هو التزيّد والمبالغة.
فإذا ألقينا نظرة على النصوص الأدبيّة، ألفينا ظاهرتين بارزتين، كما تمثّلتا في ذلك الملحق:
أ- الغرق في القديم، وإقصاء الحديث.
ب- الحرص حتى في نطاق القديم على كل بارد ميّت من الأدب. وذلك كأن يُمتحن الطلبة بقصيدة (ابن الرومي) في رثاء ابنه:
بكاؤكما يشفي وإن كان لا يُجدي
فجودا فقد أودَى نظيركما عندي
وابن الرومي، لدى كل من يعرف الفرق بين الشِّعر والنظم، يغلب عليه النظم أكثر من الشِّعر. وقصيدته هذه بالرغم من موضوعها الذي يلامس شغاف كلّ أب، وبالرغم من العويل فيها - وهذا لعله ما يعجب بعض المغرمين بها- فيها كثير من التقريريّة. وقد اختيرت منها أبياتها التقريريّة تلك تحديداً، التي لا تقول شيئاً، ولو جُرّدت من الوزن والتقفية لاستحالت إلى نثرٍ رديء، لا ماء فيه ولا روح:
توخّى حِمام الموتِ أوسط صبيتي
فلله كيف اختار واسطة العقدِ
طواه الردَى عني فأضحى مزارُهُ
قريباً على بُعدٍ بعيداً على قُربِ
هكذا ورد الشطر الأخير في الملحق التعليمي، وصوابه: (بعيداً على قُربٍ قريباً على بُعدِ). ولكنه مأزق بديعيّ روميّ أوقع الأستاذ بجلال قدره في بلبلة دلاليّة بعيدة، وانحراف فنّيّ مرير، ناهيك عمّا سيوقع الطالب المسكين فيه مما هو أدهى وأمرّ! إلى آخر تلك الأبيات الإخباريّة، التي تَرَكَّز الاختيار عليها مع أنها في معظمها من سذاجة التعبير والتصوير إلى حدّ بعيد، على ما حمّلت به من أوزار التحذلقات الذهنيّة واللفظيّة، التي تزيد النصّ قبحاً شعريّاً، وبلادة الطالب بلادة، وسقم ذوقه مزيداً من السقم. وتلك الذهنيّات واللفظيّات هي التي سيُشغل بها عقل الطالب من الموضوع كلّه، بين جناس وطباق ومقابلة، إذ هي قد أضحت الغاية والوسيلة، سواء في الاختيار أو في التحليل. (وللحديث بقيّة).
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
* (عضو مجلس الشورى)
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net