البياض ليس غياب اللون وتخلفه عن الحضور.. البياض حضور مضيء وأكيد
ج. ك. شيسترتون
إلى الشيء الوحيد الذي يمنحني الأمل في الحياة..
إلى بهجة الحياة وزينتها..
حصرياً إلى الطفولة..
حين كنت طفلة كنت أتحسس الأشياء بصدق بحثاً عن كنهها.. عن دلالاتها..
أبعثر الأشياء ثم أرتبها..
أبكي حين أفشل في مهمة ما، لكني سرعان ما أنسى فشلي لأعيد الكرة من جديد. وحين يحالفني النجاح أصرخ وأقفز.. أركض إلى اللامكان، تمتد يدي إلى أكياس التوت المثلج، أمسكها بين يدي الصغيرتين، أجلس متكئة على جدار الطين وأمتصها غير مبالية بقطرات التوت حين تعانق فستاني، التي ستمطرني بوابل عتاب من أمي؛ فاحتفالات الفرح لا تفتر تطرد كل شيء آخر سوى الفرح..
حين كنت طفلة كان لكل شيء طعم آخر ونكهة مميزة..
توالت أيام وانصرمت سنون.. كَبُرْت بيد أن الطفلة بداخلي لم تكبر.. فوقفت في ليالي الحزن الطويلة وحيدة.. أتطلع إلى السماء وأبكي؛ فلم يعد بإمكاني أن أنطلق كعادتي، وجدتني مقيدة بعالم خارجي يناقض عالمي الداخلي، وكذا بكيت عجزي عن الانضمام إلى قافلة أولئك الذين تئد ملامح الشباب طفولتهم..
بكيت فشلي في بناء أعماق جديدة بداخلي.. فصرت نغمة مثقلة بالترقب والحزن تبحث عن إيقاع جميل..
وفي غمرة هذا كله وجدت إيقاعي في الأطفال حولي..
أولئك الأطفال الذين يمنحوننا كل شيء بصدق مطلق بلا زيف وبلا أقنعة، يتحلقون بقلوبهم قبل أجسادهم حول حِزَم الضوء.. يلتقطون حبات المطر ويصافحونها بألسنتهم الصغيرة؛ لتزيد أرواحهم بهاء على بهائها..
أولئك الأطفال الذين نحتاج دائما إلى قراءة ملامحهم؛ لنشعر بأن الدنيا ما زلت بخير، وأن ثمة جانب مشع في الحياة يشرق من صدورهم..
أولئك الأطفال الذين حين يتسابقون إلى أحضاننا ويطوقوننا بأيديهم البضة فهم وقتئذ يزرعون بين أضلعنا فسائل بهجة لا تضاهيها بهجة أخرى.. أولئك الأطفال القادرون على التهام حزننا وزرع الابتسامة على شفاهنا حين نستشعر نبضهم لنا.. وشيئاً يسري في عروقهم يحمل اسمنا وملامحنا وعنواننا..
أولئك الأطفال الذين ما إن يلمحوا الدموع في أعيننا حتى تتقد أعينهم بحنان رائع لا مثيل له، فتسيل دموعهم النقية لتختلط بدموع وجعنا..
أولئك الأطفال الذين نسعد كثيراً وقد شغلنا حيزاً من تفكيرهم وخيالهم الخصب.. ونبتهج أكثر حين تتبعثر حروف اسمنا وهم يحاولون جاهدين جمعها، بيد أن لثغة الطفولة تصيّر أسماءنا قطع سكر.. أولئك الأطفال الذين يترقبون عودتنا حين نغيب بفارغ صبر وارتعاشة فرح تصوغها أجسادهم الغضة..
يتفحصون أكفنا، وحين يلمحون قطع الحلوى وقوالب الشوكولا ترسم بساطتهم المتناهية على جدران الحياة لوحة بهجة بألوان الطيف..
أولئك الأطفال الذين علمونا كيف نمنح بصدق ونهمس بصدق ونبتسم بصدق مطلق..
هناك فقط في عوالم البراءة والبياض.. لا تكلّف ولا صنعة..
لا إشارات استفهام ولا غموض، فقط جري وصراخ ووضوح وضحكات عذبة ودمعات بريئة سرعان ما تمتصها قبلة أو هدية صغيرة..
إن عالم الطفولة عالم مدهش وبديع..
فاقتربوا من أطفالكم..
التفتوا إليهم..
شاركوهم بساطتهم..
تنفسوا هواءهم..
فأرواحهم بحاجة ماسة إلى دفئكم..
إضاءة
يقول الكسندر سو لجينستين (إن السطور مطبوعة بالحروف السوداء الصغيرة العادية على الورق الأبيض، غير أن مجرد معرفة القراءة ليس كافياً لأجل قراءتها).
هذه المقولة تخص الحروف، بيد أنها تذكرني بالطفولة كثيراً؛ فالطفل بحاجة إلى مهارة خاصة لقراءته.. مهارة قراءة الأرواح والامتزاج معها والتعمق فيها؛ فهو يحتاج إلى رعاية جسده بقدر حاجته إلى روح تجيد الغوص في أعماقه..