حوار - عبد الكريم العفنان
في حضرة العلامٌة الدكتور ناصر الدين الأسد تجتمع صفات عديدة، كان علمه وتواضعه طريقا إليها، فهو الشيخ الأنيق، ومعالي الوزير، والدبلوماسي الرفيع والأكاديمي العاشق والعارف بتفاصيل اللغة والمؤرخ والمحقق وأحد أبرز ممثلي المدرسة التكاملية في النقد وحامل لواء (الكلاسيكية الجديدة في التعبير الأدبي) والأكثر إبحارا في الأدب الجاهلي وتدوينه وإسناده وأول من قارن أراء المستشرقين بآراء العرب المحدثين.
ورغم كل المناقب التي يتمتع بها ابن الثمانين، لازال يرى نفسه طالبا في مدرسة الأدب، هذه المدرسة قادتني قبل محاورته إلى الاستعانة بأكثر من صديق، سعيا لتقديم الصورة الأوضح لموقفه حيال الكثير من القضايا الأدبية والفكرية، ولاسيما موقفه الإشكالي من قصيدة النثر التي يقول عنها (ليست قصيدة وليست نثرًا) ويعتبرها (مجموعة من الشطحات والخواطر كتبت بطريقة ركيكة) مؤكدا أن مصيرها يشبه (الفقاعات التي تتطاير في الهواء وتنفجر في الفراغ) وهو ما يعده شعراء الحداثة تجني على قصيدة النثر. كذلك ذهب بنا الحوار إلى التراث وأهميته، وكان للدكتور الأسد في هذا الميدان موقف لافت حيث رفض الربط بين موقف وسائل الإعلام الغربية وبين التراث العربي والإسلامي بما فيه من قيم ومثل إنسانية وحضارية مع قناعته المطلقة بالحوار مع الآخر، شريطة أن يكون الإقبال على الحوار مقرونا بـ(استشعار كرامتنا وكرامة أمتنا وعلى مستوى الندية والتكافؤ، وألا نظهر أنفسنا بالمتسامحين من أجل التوفيق والتلفيق وإرضاء الآخر). وشدد في حديثه على ضرورة أن يبث الشعراء والمثقفون الأمل في نفوس الأمة؛ لأنه يعتبر الهزيمة الحقيقية للأمة هي في (أن تنهزم نفوس أبنائها من الداخل وأن تستسلم لليأس) وفيما يلي النص الكامل للحديث الذي أجرته (الثقافية) في مكتب ومكتبة ناصر الدين الأسد في العاصمة الأردنية عمان..
* كتابك نشأة الشعر الجاهلي وتطوره (دراسة في المنهج) هل يشكل استكمالاً للمشهد الوافي الذي قدمته في كتاب مصادر الشعر الجاهلي؟
- هو محاولة أولى - كما ذكرتُ في عنوانه - وقد تبعته محاولة ثانية لم أنشرها لأنني مازلت أختبرها في فكري، وهي تكمّل المحاولة الأولى وتوضّحها. وأحسب أن هاتين المحاولتين ستعقبهما محاولة ثالثة بمشيئة الله تجمع أطراف الموضوع وتنتهي به إلى غاية أرضى عنها ولو بعض الرضى، ذلك لأن موضوع نشأة الشعر الجاهلي موضوع غائض غائر في القدم، ومصادره قليلة جدًّا، والذين كتبوا فيه من المحدثين لم يصلوا إلى شيء يطمئن إليه البحث العلمي.
* الناظر في تحقيقك ديوان (الحادرة) يرى من خفايا صنعة التحقيق الكثير فقد صنعت من شعر الحادرة على قلته ديوانًا فهل تحسب أن التحقيق ينبغي أن يستوفي بهذا الشكل؟ أم أن الدواوين الصغيرة هي التي ينبغي أن تحظى بهذا الاهتمام؟
- ليس في تحقيق ديوان الحادرة تزيّد ولا استكثار، فقد التزم فيه محققه أسلوبًا من التحقيق جدير بأن يُتَّبع في الدواوين الصغيرة للشعراء المقلّين وفي الدواوين الكبيرة للشعراء المكثرين على حدّ سواء، وذلك لأنه اقتصر على ما هو محتاج إليه في اختلاف الروايات وفي تخريج الأبيات في المظانّ الأخرى وفي التعريف بالمناسبات التاريخية التي ورد ذكرها في الشعر، وهذا كله دون حشو ولا استطراد.
* هل ثمة علاقة شخصية مع محمد روحي الخالدي الذي وصفته بأنه رائد البحث التاريخي الحديث في فلسطين؟ وكيف ترى شخصية الخالدي وريادته للأدب المقارن؟
- محمد روحي الخالدي من رجال القرن التاسع عشر فقد ولد في مدينة القدس سنة 1864م وتوفي في الآستانة سنة 1913م قبل مولدي بعشر سنوات. وعلاقتي به علاقة التلميذ المعجب بكتاباته وأفكاره دون أن يلقاه. وقد جعلت في عنوان كتابي عنه أنه رائد البحث التاريخي في فلسطين، ولم أقف طويلاً عند الصفة الأخرى التي تميّز بها وهي أنه رائد النقد المقارن، ذلك لأن هذه الصفة كثر الكاتبون فيها، ووفّاها حقّها أستاذي الدكتور إسحاق موسى الحسيني، ولذلك عُنيت بإظهار الصفة الأخرى وهي ريادته للبحث التاريخي الحديث في فلسطين لأن أحدًا لم يكن قد وفّاها حقّها من الدراسة.
* كيف تنظر الآن إلى ما بدر من الأستاذ محمد نجيب البهيتي حول تشكيكه في سفرك المهم مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية؟
- نظرتي الآن هي نظرتي نفسها السابقة، فما قيل لا يستحق الردّ لأنه مجموعة من الانفعالات العصبية العاطفية التي انتهت به إلى مجموعة من الشتائم، وليس فيما ذكر حُجّة واحدة تسند كلامه. ولكنه أراد أن يهاجم الدكتور طه حسين لأنه اعتقد أن الدكتور طه ظلمه وكان السبب في خروجه من جامعة القاهرة وقّرّب إليه الدكتور شوقي ضيف الذي تدرج في المناصب التي كان يظنّ أنه هو أجدر بها، وزعم أن جميع كتب الدكتور شوقي ضيف، وهي نحو خمسين كتابًا، مسروقة من كتابه الذي لم تزد صفحاته على الأربع مئة، وكان لابدّ له أيضًا أن يهاجم صاحب مصادر الشعر الجاهلي لأنه تلميذ لهذين الأستاذين الكبيرين.
أما ما نقله عن لسان الأستاذ محمود محمد شاكر فقد أقسم لي الأستاذ محمود قبيل وفاته أنه لم يقل له ما زعم أنه سمعه منه. ومهما يكن من أمر فالرجل الآن بين يدي ربه رحمه الله وغفر له، فقد مات منذ سنوات قليلة في المغرب حيث نفى نفسه احتجاجًا على ما ظنّ أنه اضطهاد الدكتور طه حسين وأساتذة جامعة القاهرة له.
* لا أشك بجنوح من دافعوا عن الكتاب إلى الموضوعية التي انتصروا بها في دفوعهم عن الكتاب... لو كنت ستقف مدافعًا وأعلم أن أدبك أرفع من ذلك فهل كنت ستقبل بدفاع أشبه بذلك الذي أسلفوه؟ أم أنك كنت ستضيف شيئًا جديدًا فاتهم التطرق إليه؟
- ليس عندي ما أزيده على ما ذكرت في الجواب السابق سوى أن أشير إلى أن الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم حُوّر قد أصدر كتابًا سنة 1996 عنوانه (الشعر الجاهلي ومناهج بحثه بين كتابين) وضّح فيه الأمر توضيحًا علميًّا وافيًا.
* هل كانت رحلتك في تحقيق النثر أمتع بوصفك محققًا؟ أو أن تحقيق الشعر يفتح آفاقًا أوسع للمحقق؟
- الأمر يتوقف على طبيعة الكتاب المحقّق، فكتب التاريخ ومنها كتب السيرة النبوية الشريفة والمغازي تحتاج إلى ضبط ما فيها من أعلام ومواقع بالشكل حيث يشتبه اللفظ، وتحتاج كذلك إلى مراجعة الأنساب والأسانيد لأنها أحيانًا تختلط وهي عرضة للاختلاف في المصادر المتعددة. وقد يحتاج تحقيق الشعر إلى مثل هذا الضبط والمراجعة إذا كانت قصائده تتضمن ذكرًا لوقائع وحروب حدثت في زمن الشاعر أو في زمن أسلافه وكثرت الإشارات في الشعر إليها وإلى رجالها، كما في بعض الشعر الجاهلي والأموي. والأمر يتوقف أولاً وأخيرًا على نسخ المخطوطة التي بين يدي المحقق ومدى الثقة بها وبضبطها، وهذا حديث آخر يشغل به المحقّقون أنفسهم. ويبذلون فيه جهودهم.
* كتبت أكثر من دراسة حول الأدب الحديث منها ما كان محاضرات ومنها ما كان دراسات.... وتتبعت الأمر ناقدًا ومؤرخًا أين تجد نفسك أكثر في حقل تخصصك الدقيق في الأدب الجاهلي أم في الأدب الحديث؟ ولماذا كان ذلك النزوع إلى الحديث والحداثة؟
- سبب هذا النزوع أنني أعتقد بوحدة الثقافة والتراث، ولا يجوز لأستاذ جامعي أن يحصر نفسه في موضوع واحد أو عصر محدد ويجهل ما سواه. وكان هذا هو شأن أساتذتنا الكبار مثل الدكتور طه حسين والدكتور شوقي ضيف، وهو شأن أدبائنا ومفكرينا الكبار أيضًا مثل عباس محمود العقاد.
* كتبت عدة مؤلفات في العلاقة مع الآخر ومستجدات العصر والعولمة والموقف منهما جميعًا. بعد المستجدات السياسية العالمية وموقف الآخر من الثقافتين العربية والإسلامية.... كيف تتصور الموقف الذي ينبغي أن نتخذه من الآخر؟
- لقد وضّحت هذه الموقف في بعض فصول كتبي، وأوجزه في عبارتين:
الأولى: أن يكون إقبالنا على الحوار ونحن نستشعر كرامتنا وكرامة أمتنا وأن هذه الحضارة الحالية إنما هي حلقة من سلسلة الحضارة الإنسانية المتعاقبة وأنه كانت للعرب والمسلمين حلقتهم التي استمرت نحو سبعة قرون في هذه السلسلة، ولذلك نحن نحاور ثقافيًّا وحضاريًّا على مستوى النّدّيّة والتكافؤ. والعبارة الثانية: أنه لا يجوز في أثناء الحوار- من أجل التوفيق والتلفيق وإرضاء الآخر وإظهار أنفسنا بمظهر المتسامحين - أن نفرّط بمثلنا وقيمنا ومبادئنا وما نعتقد أنه الحق والصواب.
* هل ثمة دور للتراث لتقديم صورة للإنسان العربي بما يخدم في تصوير هذا الإنسان وإخراجه من الصورة النمطية التي تفرضها عليه أجهزة الإعلام الغربي؟
- في رأيي أنه لا علاقة بين تراثنا مهما نحاول أن نُظهِر ما فيه من قيم إنسانية وثقافية عُلْيا ولا لحقيقة ديننا مهما نبذل من جهود في شرحها وتوضيحها، لا علاقة لكل ذلك في تغيير مواقف أجهزة الإعلام الغربي، وقد يكون بعض العاملين في تلك الأجهزة من الذين يعرفون هذه الأمور على حقيقتها ولكنهم موجَّهون ومُسيَّرون يخضعون في ذلك لسياسات الحكم في بلادهم وفي بعض البلاد ذات النفوذ العالمي. ومع ذلك فإن هذا الرأي لا يعني أن نتوقف عن إبراز ما في تراثنا من قيم ومثل إنسانية حضارية، ولا أن نَكُفّ عن التعمق في دراسة ديننا وإظهار حقيقته للعالم بأسلوب علمي يصل إلى عقول بعض العلماء والمثقفين الغربيين والشرقيين. وربما كان العرب - وخاصة الأجيال الناشئة - أحوج إلى ذلك من غيرهم.
* أستاذنا الكريم برأيك أي جانب من جوانب التراث ينبغي أن نصدره؟ وهل هناك جوانب من التراث ينبغي أن نحجبها؟
- نعم في تراثنا - كما في تراث جميع الأمم - جوانب دُسّتْ على التراث وشوّهت بعضه ولا بدّ من تنقيح التراث وتنقيَته من هذه الشوائب. وتبقى بعد ذلك جوانب ناصعة من تراثنا الفقهي والفكري والفلسفي والعلمي النظري والتطبيقي ومن تراثنا الفني والأدبي هي في رأيي أن هذه ليست قصيدة وليست نثرًا، وإنما هي مجموعة من الخواطر والشطحات مكتوبة بأسلوب ركيك متهالك يلفّها الإبهام والغموض. وليس لهذه القصيدة - كما تسمَّى ظلمًا - جمهور حقيقي سوى مجموعة من المروّجين والمطبّلين لأسباب يطول شرحها لها دوافع داخلية وخارجية. ويظل الشعر الحقيقي والنثر الحقيقي لهما مبدعوهما وسَدَنتهما. وستنتهي هذه الفقّاعات التي تتطاير أمامنا وتنفجر في الفراغ.
* كيف تنظر إلى مستقبل القصيدة العربية بوصفك متبعًا لها منذ العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث؟
- ربما تضمن الجواب السابق بعض جوانب هذا السؤال، وأوضح ما ذكرته وأزيد عليه بقولي إن المستقبل دائمًا كفيل بكل ما هو حقيقي وأصيل ومتطور تطورًا صحيحًا.
* لو قدر لك أن تصنع مشروعك الأكاديمي بصياغة جديدة في أي حقل تخصص تسلك نفسك؟
- ربما كنت سأسلك الطريق نفسه وأصوغ المشروع الذي مضيت فيه حتى الآن صياغة تعين على استكماله وتحقيق أهدافه بمشيئة الله وتوفيقه.
* كيف تصف لنا العلاقة التي تربطكم بالأديب السعودي الراحل حمد الجاسر؟
- كان العلامة حمد الجاسر رحمه الله تعالى شيخًا كبير الشأن في علمه وخُلقِه، وكان له تلاميذ كُثر من خلال كتبه ومجلة (العرب) التي كان يكتب بقلمه جزءًا صالحًا من مقالاتها ومن خلال مجالسه في بيته العامر، وفي المناسبات التي كان يحضرها، وكان بعض الذين يتمتعون بكل ذلك يشعرون أنهم أيضًا من أصدقائه المقربين إليه، وكنت واحدًا منهم.
أما الحركة الأدبية في المملكة فساحتُها واسعة متعددة تتمثل في أساتذة الجامعات والصحف الكثيرة وملاحقها الأدبية والمجلات والأندية والمحاضرات والشعراء والنقاد والمجالس الأسبوعية التي يعقدها بعض المفكرين وفي حركة المطابع وما تصدره في شتى التخصصات، ويجد المرء صعوبة بالغة في متابعة كل هذا النشاط الفكري الثقافي المبارك. وأحاول في حدود جهدي ووقتي أن أتابع بعضه.
* السياسي.. الدبلوماسي... الأكاديمي من استفاد من الآخر؟ وفي أيهم وجدت نفسك أكثر؟
- هذه الجوانب متداخلة عندي، وكل جانب منها يصب في الآخر ويرفده، ويظل الجانب الأكاديمي هو الأصل عندي وهو الذي أجد نفسي فيه حين أكون في رحاب الجامعة بين تلامذتي.
* كلمة أخيرة لمعاليكم في نهاية الحوار؟
- أُهيب بكل أستاذ وكاتب وشاعر وصحفي ووليّ أمْرٍ أن يبُث روح الأمل والتفاؤل والاستبشار واستنهاض الهمم وتقوية العزائم في نفوس مُجالسيه وسامعيه وقارئيه، وخصوصًا من الشباب لأن الهزيمة الحقيقية للأمة هي في أن تنهزم نفوس أبنائها من الداخل وأن تستسلم لليأس، وبذلك نفقد مستقبلنا كما اضطرب حاضرنا، ونعوذ بالله من سوء المصير.