بين أن تكون الكتابة وظيفة أو متعة هناك فرق شاسع يكمن في ادخار الحياة داخل صرر رقمية في بنك الريح، وبين ادخارها في يراعات متبرعة في شفاه الورد وأيقونات العطر البكر، هما يكمن إنجاز الإبداع الذي لا يتحقق ضمن مراسم مهنية بحتة تحد من طلاقته، أو حتى ف يجو عبثي عقيم وفوضى تودي به إلى حتفه، من يمسك بزمام الأمرين معا حتى تكتمل المعادلة تبعا لخطوات مدروسة بحرفية خلاقة؟
من يبلور العمل الإبداعي إلى كينونتين يمزجان الالتزام بالإلهام، بحيث لا يتحول الأمر إلى عادة منتظمة تخرج بالكتابة عن طور التأمل والتأثر بالمحيط مما تقتضيه العناصر أو الشروط الصحية للعملية الإبداعية الحقة؟
لا فضل إذن لأحدهما على الآخر طالما لم يكملا بهما نقصان التمام فيهما قدر المستطاع..
وبين سراطين لا ثالث لهما يتوجب على السائر ألا يتأرجح أو يتذبذب فيفقد توازنه، من هنا يحق للإبداع أن يفخر بمبدعه، وبانتسابه لفكر راق ممهور بالحدس والاطلاع والدراسة، مترجما فعليا إلى إفادة للغير عبر نقله إيجابيا إليه.
الدكتور ناصر الدين الأسد، قامة أكاديمية كبيرة، وكيان إبداعي قائم بذاته، له على الثقافة العربية أيد بيضاء، تشهد له، وفي جعبة مشواره الكثير الكثير مما يمكن أن يشي برحلة عذبة في حضرة العلم والمعرفة، والشعر الجميل ذاك القادم من زمن أصيل..
نعم هو الشعر... وهل ألذ وأطيب من الشعر؟
والشاعر هنا من طراز خاص، وخاص جدا، له مواصفات الوافر لما يكون إيقاع البحر غنائيا وشجيا في آن، وله رتم الرمل لما يحيك الغزل مع الرحيل.. كأنه نسيج الرمال على خاصرة الأمواه، شاعر يجوب البحور بحنكة سندباد، وشعر من شهد وفقد، له صدى أندلسي حميم، آت من أزمان تسكن في الشغاف، كتباريح الحسرات ولا تبارح.. شعر له جلال المحراب، وكلمات هي ابتهالات وصلوات، إذن حق لنا القول بأن سمو القصيد من سمو من نفث به من روحه..
أفما يحق لي التفجع والأسى
بلدي هنا وأنا غريب الدار؟
يا من يعز علي أن ألقاهم
تحت الثرى متوسدي الأحجار
فتراب هذي الأرض من أجسادكم
ونباتها طلع الدم المعطار
وهواؤها متضمخ بأريجكم
وتراثها من يعرب ونزار
يا أرض أندلس أممتك زائرا
أرجو بأرضك أن أطهر عاري
أترى يكون مآلنا كمآلكم
ونصير مثلكم من الأخبار
الشعر رفاه الروح المؤرقة حد العذاب، الشعر الأم الرءوم ليتامى يفجعهم الموت بذويهم، الشعر وطن الخطى الشريدة على أرصفة السماوات البعيدة، ويا لهذا الرفاه اليتيم، والحزين بحجم دموع لم تذرف بعد من مآق غائمة..
قد طال في الصحراء سيري واغترابي
أقتات من جوعي وأشرب الظما
وأكتسي عريي وأنزف الدما
وأصحب الوحشة دربا مظلما
وحدي أنا بكل أرض وسما
مشرد الأهل ومسلوب الحمى
وحدي أنا
ناصر الدين، الشاعر الذي حظي باقتناص الحياة بصنارة الخيال وطعم الحقيقة..
ومن قال إن الشاعر يخرج عن مدارات الواقع دائما؟ لم لا يكون الواقع هو العنصر الذي يفلت من زمام الشعر لا لغلبته عليه بل لأنفة الشعر ذاته.. رغم أن المواد الخام الأولية مستحضرة من مادة الحياة بمجرياتها الحقيقية إلا أن كينونته تتأتى من امتزاجات التضاد ومن تناقضات الخيال وتآلفاته.
من يقرأ حياة ناصر الدين الأسد ويمر بشعره متأملا يستشف خيالا واقعيا جدا ولكته لا يؤرخ ولا يقرر بل يوحي كأنما العمر لقطة شعرية خاطفة تومض في أجندة الحياة لوهلة ولا تنطفئ أبدا..
هكذا الحياة خيال مؤنس
ثم لا يلبث أن ينقشعا
ناصر الدين العاشق الذي توله بمن رافقته إلى العمر، إلى الحياة، هو المشتاق بكل ما للشوق من إلحاح مثابر في الحنايا لا يكل ولا يهدأ.. اشتق من عواطف العواطف كلها، رغم التمنع الراغب من جانب الحبيبة.. وكأن قدر الحب الحقيقي أن يتخفى أو يتوارى بالخفر الجامح في الروح كأنه نفثة الله الخفية فيها وشهقة الولادة قبل حين ووردة النار الزكية التي تشب في الوجد فتوقده شبابا وفروسية الصبا التي تذكي صهيل الدماء فتشرئب للتفتح في أوردة النبض ويالذياك الغرام.. الذي يحدد الولاء للحظة البكر والذاكرة الأولى..
حتام تخفين الغرام وأظهر
وعلام أصلى الصد منك وأصبر؟
لا تكتمي عني غرامك إنه
في كل جارحة لديك مسطر
شوق الغرام نزا بعينك ثائرا
واللهفة الحمراء فيها تزأر
كيف تذود عن نفسك أمام قلبك، وقد جردك من ترسك وسيفك وأغمد فيك نبضك؟
كيف تقول للعشق لا وقد حرم عقوقه، ويستحيل أن تعتق وجدك منه وهو الآسر الآمر؟
ولأن الرحلة إلى فردوس الحياة تتطلب أداء فريضة العشق، فلابد من زوادة تفيك حاجتك في سفر لا ينتهي..
كيف تكون إذن على ناصية الطريق تومئ لها أن تتبعك ولست تمشي على قدميك بل تحلق عاليا؟
يا أيها السفر، ما غرامك بالمسافر؟
كم من الحقائب يحزمها الرحيل، وكم يحررها الإياب؟
سفر على سفر على سفر وأنت حل بكل بلد ولا تغادر..
إذن ناصر الدين الأسد رحالة من طراز خاص أيضا وخاص جدا..
وما أحب الشعر بالرحيل، وطقوسه، ليس باعتباره مدونة بحتة، بل هو ذلك المعمل المخبري الذي يصهر المواقف في غليان الروح كما تراها كاميرا التعبير لا كاميرا التصوير..
السفر عبر الرؤى، والسفر عبر الكتاب، ثم السفر عبر سكك السماء، وقاطرات العمر، السفر ليس فقط بمعناه الحقيقي بل بمجازيته الواقعية إن جاز القول، إذن هي رحلات تمزج ما بين الواقع والمخيلة، وبين المعرفة والتجربة، وبهذا يكمن ثراء الرحلة بمجملها الشامل، حتى لتبدو كأنها صيغت على هيئة الرحالة فكانته كما لو أنه بحد ذاته رحلة لذيذة من ابتغاها نعم بها، وهل أجمل من أن تكون بينك والرحلة رفقة، حتى يكتمل نصاب الرفاق (الشعر والعلم والعشق والسفر)؟
ما أمتع وأثرى تلك الحياة، هي ألبوم حكايا، وذاكرة صورية، حياة شهرزادية، تروي وتروي وتروي ولا تتوقف عند موعد الديك، بل تواظب على القص لأنها الذاكرة التي لا تستريح فشرط شهرزاديتها يمن باجتناب الحبكات لكي لا تقفل الرواية وتنام الحياة.
****
عيناك تغسلني من الرجس
عيناك ما احلى الهوى بهما
قد قالتا إن الهوى سر
ويطهراني من هوى النفس
وألذه للأنفس القدس
توحي به العينان بالهمس