من الصعب الكلام على الأسد، مع إغفال شخصه، وشخصيّته، فهو الأستاذ الأكاديميّ، والدبلوماسيّ، والمثقّف، والمفكّر، والإنسان، والرجل، بأناقته المشهورة، وقيافته الرفيعة، ولياقته التي يتحدّث عنها الركبان، ولسانه الذَّرب، فبمثله من الرجال يكون الإعجاب، وإجلالا لعلمه، وسمْته الأكاديميّ؛ يكون الثناء والتقريظ. ولعلّه ليس من المغامرة القول: إنّ الأسد مكوّن مهمّ من الهويّة الثقافيّة في الأردن.
في إطار رغبتي عن الأحكام المطلقة، أحاول أن أقنع نفسي بعدم وجود كتاب يُغلِقُ الباب خلفَه في موضوعٍ ما، ولكنّني أومن بأنّ كتاب (مصادر الشعر الجاهلي) هو كتاب أغلق الباب خلفه في موضوعه، أو كاد، ولو لم يكتب ناصر الدين الأسد سوى هذا الكتاب، لكفاه، حتى يندرج في سلّم أعلام المؤلفين، والباحثين. ومن خلال هذا الكتاب كانت بداية تعرّفي إلى الأسد، شأني في ذلك شأن كثير ممن يعرفونه، بدءاً بعميد الأدب العربيّ رحمه الله.
تهتمّ هذه المقالة بملامح المنهج العلميّ للرجل، وهو أمر ليس ببعيد عن الكلام على شخصه، فهو يحمل دبلوماسيّته معه إلى بحثه العلميّ، ويأخذ منهجيّته، ووقاره الأكاديميّ، حين يتعاطى مع الناس.
أوّل ملامح منهج الأسد هو الاستقصاء، وهو ديدنه، منذ كان مشروعَ باحث يعدّ رسالته للحصول على درجة الماجستير، التي ظهرت بعد ذلك بعنوان (القيان والغناء)، وسمة الاستقصاء العلميّ فيه بادية، ولكنّها تتجلّى بوضوح في متابعته معنى كلمة (قيان) باستقصائها في اللغة، والمعجم، واللغات الأخرى، حتى امتدّ ذلك ما يزيد على عشر صفحات في الكتاب.
وينصرف هذا الاستقصاء كذلك في استيفاء ملامح التدليل على كلّ مسألة كان يتطرّق إليها، وأحسب أنّ كتاب مصادر الشعر الجاهليّ هو وثيقة لهذا الملمح من ملامح منهج الرجل. ويمكن أن نقرأ كلام الأسد على الكتابة، والتدوين، والأوّليّة. وكذلك يمكن أن نقرأ مقدّمته تحقيق ديوان قيس بن الخطيم، أو مقدّمته تحقيق ديوان الحادرة، لنرى أمانته العلميّة، وعزوَه كلّ فضلٍ إلى أصحابه، واعترافه بتقدمة العلماء القدماء، والدارسين الحديثين، مما أفاد منه الأسد في هذين التحقيقين. فنجده يحمد لامتياز عرشي، وإنجلمان جهديهما في تحقيق ديوان الحادرة، ولكوفالسكي جهده في تحقيق ديوان قيس بن الخطيم، ويصرّح تأدّبا وتواضعا بأنّ جهده لم يكن إلا استمرارا لجهودهم، وتكملة لما بدأوه، ويعزو إليهم الفضل، ويرفع إليهم آيات الشكر. وليس ببعيد من ذلك أنّه اعترف لمحمود شاكر بالفضل في حثّه على تحقيق ديوان قيس، ورعاه، وتابعه فيه. ثمّ يختم باعتذار العالم عن عدم الإحاطة بشعر قيس كلّه، ويعترف أنّه طموح لا سبيل له.
ومن ملامح منهج الأسد الواضحة أنّه لا يجد مكانا للحياء في العلم، فها هو يكتب عن الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، فلا يتظاهر بالحياء، أو يقصّر عن الاستقصاء، بل نجده يتكلّم على مطاعم الTopless وفتياتها، وعلى تنانير الميني جوب، ونوادي التعرّي، ويُبدي معرفته الشموليّة، فيكون بذلك عالما شيخا، وفي الوقت نفسه رجلا عصريّا يعيش على الأرض، ويعرف ما يعرفه أهل عصره، بل إنّه يستعمل ذلك كلّه ليقدّم دفاعا محكما عن لبس المرأة المسلمة الخمارَ.
ولعلّ أدب الأسد لم يمنعه من أن يكون جريئا في العلم، فقد قوّم بعض الآراء التي ارتآها أئمّة وباحثون ومحقّقون، ورجّح رأيا على رأي، وخطّأ من أخطأ، وأشار إلى تصحيفات، وسوء ظنّة، وذلك واضح في تحقيقاته جميعا، وبخاصّة في الديوانين، ولكن ذلك لم يكن ارتجاليّا، بل كان مستندا دائما إلى حُجّة واضحة، وتَمَثُّل لك جزئية من الجزئيّات، فهو لا يقدّس ما جاء في الكتب السابقة، ولم يمنعه احترام العلماء عن أن يرمي بسهمه، حين يكون هذا السهم واجب الرمي.
وإذا كان الأسد قد صوَّبَ وقوَّم صنيع غيره، فإنّه لم يرَ ضيرا في أن يزجي إليه الأستاذ حمد الجاسر تصويبات لصنيعه في تحقيق ديوان الحادرة، بل إنّه يعدّ ذلك الجهد من الجاسر فضلا تفضّل به عليه، على الرغم من أن كثيرا من الباحثين، والعلماء يتحرّجون من أن يصوّب الآخرون أعمالهم.
أطال الله في عمْرَ الأسد، ومتّعه بالصحّة، ومتّعَنا بمعين علمه الزاخر، فما يزال الأسد معطاءً، أهدى إليّ حين تشرفتُ بزيارته آخر كتابين صدرا له، وهما (الأمالي الأسديّة)، و(تحقيقات أدبيّة)، ثمّ أهدى إلى بشارة، أحسب أنها ثمينة، وهي أنّه يهمّ بإعادة نشر كتابه الدّرّة (مصادر الشعر الجاهلي) مزيدا، ومنقّحا، فبعد نصف قرن من نشر هذا السِّفر الثمين، وجد صاحبُه ما يمكن أن يضيفه إليه، فما يزال نسغ العلم، والعمل يسكنان روحه المتوقّدة عطاء، وتواضعا، ومحبّة.