كثيراً ما أحنّ إلى كتب الأكاديميا التقليديّة، الكتب التي تقوم على الاستقصاء، والجمع، والاصطفاء، والتدقيق، والتعليق، وفي ذلك كلّه، بالطبع، نقد.
تحمل تلك الكتب خلاصة جهد الآخرين، الذين يحاكمون، ويجمعون، ويصطفون، ثمّ يقدّمونها للمتلقّي على طبق من ذهب.
تعدّ هذه الكتب تأسيسيّة لدارس تاريخ الأدب، ومعرفيّة شاملة للقارئ الذي يريد خلاصة مرحلة أو عصر. ووضعُها ليس مهمةً سهلة كما يُظَنّ، إذ تحتاج الكتابة في تاريخ الأدب استحضار المنطق، والتاريخ، والذائقة، والحدس، والإحساس بروح العصر، ويمكن القول إنّها تحتاج إلى رؤيا، رؤيا سياسيّ مثقّف، لا أكاديميّ مغرق في التخصّص فحسب.
إذن تحتاج الكتابة في تاريخ الأدب كاتباً بمقوّمات خاصّة، كاتباً جمّاعاً لمّاعاً من نموذج الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد، الذي أدين له شخصيّاً بمعرفة الشعر والشعراء في فلسطين والأردن في كتابه (محاضرات في الشعر الحديث في فلسطين والأردن)، الصادر عن معهد الدراسات العربيّة العالية التابع لجامعة الدول العربيّة عام 1961، وهو مجموعة من المحاضرات التي ألقاها الدكتور الأسد على طلبة قسم الدراسات الأدبيّة واللغويّة في المعهد عام 1960، ثمّ جمعها ونسّقها، وقدّم لها بمقدمة ناظمة، وأفرد لكلّ شاعر صفحات فيها تعريف به، وبظروف حياته، ثمّ نماذج من شعره مع المناسبة التي قيل فيها، أو الحادثة التاريخيّة التي سببتها، مستبقاً ذلك ببسط نظريّ يسلك فيه المعلومات في مسلكها التاريخيّ.
إنّ ما يميّز كتاب المحاضرات، فضلاً عن النأي عن التقليعات، والفلتات، الحساسيّة الثقافيّة، والسياسيّة، في الاختيار والتصنيف، تلك التي تنمّ على الحرص على الوحدة الوطنيّة في التنظير والممارسة على حدّ سواء.
يمكن وصف الكتاب بالرصانة، ولعلّه بالنسبة لدارس عربيّ، مثلي، لم يكن على تماس مباشر مع التجربتين الشعريّتين الفلسطينيّة والأردنيّة، سبيله الأيسر، والأشمل، والأدقّ، للاطّلاع، ولمعرفة الشعراء في غير مصر وسورية ولبنان والعراق، الذين أغلقنا الباب دونهم في سنتنا الرابعة في شعبة الشعر الحديث، كما كان فرصة سانحة لنعرف أنّ في فلسطين شعراً غير شعر المقاومة!
كلّما طالعت اليوم في هذا الكتاب باحثة عن معلومة ما، استحضرت كتب أساتذتي الأفاضل (عبد الكريم الأشتر) في كتابه (النثر المهجري)، و( عمر الدقاق) في كتابه (الشعر القومي في سورية)، سيّما في منطقيّة الربط الذي يمكنك أن تطمئنّ إليه، وفي حضور روح البحث الأكاديمي التي بإمكان المتلقّي أن يتقرّاها في الفصول كلّها، والتي اعترتها اليوم الفوضى والاضطراب، فلا أظنّ أنّ بإمكان باحث اليوم امتلاك الصفاء، والتنظيم، ليضع مثل هذه الكتب، فقد أكلتنا النظريّات النقديّة، والتطرّفات، واستنزفنا اللهاث وراء الآخر الغربيّ، كما استهلكنا تورّم الذات مغيّبين الآخرين المحيطين بنا، الذين بات الزهد بهم ديدن كثير من الباحثين على مبدأ (المعاصرة حجاب).
إنّني أدين للدكتور الأسد بالمعرفة، والتلمذة غير المباشرة، على طريقة الجامعات الافتراضيّة، كما على طريقة شيوخنا الأجلاّء في التواتر، الذين أحبّ الامتثال لتعاليمهم، وأحبّ ممارسة طقوس تبجيلهم.
يثير الكتاب، في سياق آخر، شهيّتك لحفظ الشعر، نتيجة لذائقة رفيعة في انتقاء القصائد والأبيات، وحفظ الشعر تنجلي منافعه مع الأيّام، وفي المواقف حين تعييك المفردة أو العبارة العاديّة، وليس ذلك لمن بضاعته الكلمة فحسب، بل حتى لمن في يده قضايانا المصيريّة! لقد أثبتت الحرب الأخيرة على لبنان فشلنا دبلوماسيّاً نتيجة العيّ، وضحالة الثقافة، إذ عجز مندوبو الدول العربيّة في الأمم المتحدة عن شرح قضيتنا بلغتنا، وآثروا اختصارها بكلمات، ولكن ليس على سبيل (البلاغة الإيجاز)، في حين كان مندوب إسرائيل يتفوّه شعراً بلغة كانت بالأمس ميتة. لقد صوّر إسرائيل ضحيّة وأفاض، أمّا نحن أرباب البيان والقضيّة العادلة سقطنا بالضربة اللغويّة الباردة! حينما يكون للدبلوماسي رؤيا شاعر، ومعرفة مثقف، تصير القضايا أكثر جلاء وأهميّة، كما كان وهج قضايانا في رؤى (نزار قباني) و(عبد السلام العجيلي) و(غازي القصيبي) و(ناصر الدين الأسد).
إنّ الدكتور (ناصر الدين الأسد) واحد من هؤلاء الثقات، الذين يمكن لوطن أن يسلّمهم جبهته الثقافيّة، والسياسيّة، غير هيّاب من خطل منطقيّ، أو خطأ دبلوماسيّ.
أستاذة الأدب العربي الحديث - جامعة حلب