يعلم الشوق والصبابة أني
شاعر أمتطي الخيال المُجلي
أقبس السحر من عيون العذارى
وأصوغ القصيد منه فأغلي
ما غرور ومريةٌ أن يقول الشا
عر الحق: ليس في الناس مثلي
على صراط النور يمشي العمر هانئا وعذبا محمولا بجناحي حمام، متجها إلى فردوس المجد، متبوعا بشموع البحر وماءات الشمس الرقراقة لمّا تتمايد كزهرة النار فوق حريره المناسب. مشوار رائق كجدول يستلقي على حافة الشعب فتتراءى بها الصور والحكايا وتقص السنوات على الذاكرة أهزوجة المشوار الجميل الذي لا ينتهي بل ينبعث من الحياة إلى الحياة.
إنه عمر مكلل بورود الغار، ممهور بصهيل النهارات المتواترة كأقصوصة اللؤلؤ والمرجان الضيف الذي نتشرف بالحديث عنه هو فارس الحياة رسول العز ومعلم الأجيال معالي الدكتور ناصر الدين الأسد الذي يمر على المجد متأهبا لسمو أجل ومكانة أكثر بهاء، متوجا مسيرته بالتواضع والشموخ.
بماذا تراني أعرف هذا الرجل؟ كيف أبدأ معكم رحلتنا عبر مشواره العذب؟ هل أبدأ به شاعراً.. أم ناقداً أم أستاذاً جامعياً أم باحثاً يقصده طلبة العلم والأساتذة أيضا من كافة بقاع عالمنا العربي قاصدين رفقته والتبارك بفيض علمه وغزير معرفته.
كتب ما يقارب المائة كتاب وبحث، وكذلك كُتب عنه وقدم إليه الكثير من مؤلفات العلماء والأدباء.
ناصر الدين الأسد.. علامة عصره، وعضو في العشرات من المجالس والمجامع واللجان الأردنية والعربية والدولية المتخصصة والتي تفتخر بعضويته إليها.
هو الوزير المؤسس لوزارة التعليم العالي في الأردن، والرئيس المؤسس للجامعة الأردنية في عمان، وأستاذ اللغة وآدابها فيها وعميد كلية الآداب. كان سفيرا للمملكة الأردنية الهاشمية لدى المملكة العربية السعودية.. ناصر الدين الأسد ليس أردني الانتماء فقط بل عربي الهوية، تنقل في مناصب كثيرة في عالمنا العربي ونال العديد من الجوائز المهمة، جائزة د. طه حسين على سبيل المثال وجائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي وجائزة سلطان بن علي العويس في حقل الدراسات الأدبية والنقد.
أي الكلمات هي القادرة على رصد مشوار هذا الرجل الذي نذر حياته للعلم وللغة والشعر والأدب يقول عنه د. حسين عطوان: بأنه لم يكن يختار من الموضوعات السهل القريب ولا المطروح المعروف، بل كان يختار منها الصعب الشائك والمبهم والمعضل الذي يحتاج إلى عمل موصول وجلد شديد واطلاع واسع ونظر ثاقب كما يضيف أيضاً الأستاذ احمد المصلح بأن دراسته للشعر الجاهلي في كتابيه حول الموضوع في سفرين جليلين رائدين تتمثل فيهما (الإحاطة بالموضوع والأناة في البحث.. والدقة في العرض، والجزالة في الرأي والجودة في الحكم) فأصبح فارسه الذي ينتسب إليه ويعرف به، إيمانا منه بألا شعر الجاهلي هو الأصل الذي انبثق منه الشعر العربي في سائر عصوره، وهو الذي أرسى عمود الشعر الجاهلي وثبت نظام القصيدة وصاغ المعجم الشعر العربي عامة، ناصر الدين الأسد هو صاحب كتاب (مصادر الشعر الجاهلي) الذي يعتبر تطويرا للبحث العلمي الذي دار من قبل على يدر د. طه حسين.
الشعر الجاهلي إذا دار بحثه، والفوائد اللغوية وغير اللغوية هي أسلوب درسه وسمة مجالسه، الشعر وعاء للغة الأمة وتاريخها وسجلها الحضاري لذا فقد عرف الأسد كيف يتخير أحسن الشعر لأدلته.
من منهجه أن يختبر الطلبة في جميع مجالات اللغة وآدابها: في المعجم والنحو والصرف والأدب وغيرها موقد يحيل الطالب على لسان العرب أو القاموس المحيط ليتبين قدرة الطالب على التعامل مع المعجم ابتداء من ترتيبه وانتهاء بمنهج البحث في المادة المطلوبة.
من أبرز صفاته أنه لا يتحدث إلا باللغة العربية الفصحى سواء في حياته الخاصة أو ممارساته اليومية ومحاضراته، وإذا أراد طالبه أن يتحدث أو يشارك في قضية ألزمه التحدث باللغة العربية الفصيحة ما أمكنه، يقول عنه تلميذه الدكتور إسماعيل القيام في كتابه (الأمالي الأسدية) أنه يتتبع طريقة السلف الصالح سواء في حلقات درسه ومحاضراته أو في نهج حياته.
(الأمالي الأسدية) كتاب صنعه د. القيام تلميذ الأسد على طريقة علمائنا القدامى، فقد كان بعض التلامذة يقومون بتدوين أمالي شيوخهم في مجالسهم العلمية، ثم تصير هذه المدونات كتبا بعد أن يقرأها التلاميذ على شيوخهم فتعم الفائدة بهذه الكتب فلا يقتصر نفع تلك المجالس على من حضرها.
(الأمالي الأسدية) نسبة إلى صاحبها العلامة نصار الدين بن محمد بن أحمد بن جميل الأسد وقد جمعها الدكتور إسماعيل القيام حين كان تلميذا عنده.
كان من وصايا الأسد لتلاميذه اقرأوا كتب الأمالي مثل أمالي القالي واليزيدي فالعلم لا يعطي بعضه إلا إذا أعطيته كلك.
قدم ناشر الكتاب (الأمالي الأسدية) قائلا: عودنا السلف أن نلتمس التجديد في الأمالي إذ هي من المظان التي يركن إلى صدق انبعاثها من نفس صاحبها وذاته، فكرا أو أدبا وعلما فهي مرة الناظر التلميذ مجلوة على فؤاد شيخه.
وكم أفادت حركة التجديد في قرون الزهو العربي من هذه الأمالي التي ظلت وستظل خالدة لكن الأمر انبت منذ قرون، حتى جاءت الأمالي الأسدية هذه على فترة من تلك الأمالي.
(جسر بين العصور) عنوان الكتاب الذي ألفته الشاعرة العراقية مي مظفر عن علامتنا، وتشير أنه إلى جانب الدراسات الأدبية نجد أن للدكتور الأسد إسهاما في مجال الإبداع الشعري حيث إن هذا الجانب يكاد يكون مجهولا عند العامة وغير مطروق عند خاصة المثقفين.
قصائد الشاعر كما يقول عنها احمد المصلح في كتابه (ناصر الدين الأسد ناقدا وشاعرا) قصائد تستند إلى الذاكرة التاريخية للحضارة العربية الإسلامية حيث يصبح الماضي شاهدا على الحاضر، ففي قصيدة (يا أرض أندلس) يتضافر عنوان القصيدة مع مقدمتها النثرية في إضاءة المعنى فيها وفي توجيه المتلقي للدخول إلى عالمها الشعري على إيقاع المجد الأندلسي الغابر.
فتراب هذه الأرض من أجسادكم
ونباتها طلع الدم المعطار
وهواؤها متضمخ بأريجكم
وتراثها من يعرب ونزار
إني لأسمع صوتكم في خلوتي
وأراكم عن يمنتي ويساري
وأكاد ألثم كل موضع خطوة
شوقا إلى من ضم من أطهار
وحين يزور الشاعر عاصمة صقلية تنهال عليه مواكب الذكريات الهاربة من المجد العربي الغابر والحضارة الإسلامية فيكتب قصيدته (إلى صقلية) متوحدا بالمكان في الشعر والغناء والحب وعلى طريقة الشاعر المتنبي الشاعر المعتد بنفسه المتفاخر بها.
إن زمن القصيدة لديه زمن أبدي مطلق مفتوح على الماضي والحاضر والمستقبل.
الأسد منحاز على الدوام للمرأة لأمثال المرأة التي يصوغها شعرا يتوحد مع ذاته ويصهر أعماقه ثم يسكبها على الورق فصائد تتغنى بهذا الكائن الأنثوي الجميل
حتام تخفين الغرام وأظهر
وعلام أصلى الصد منك وأصبر
وإلى متى هذا العذاب أسامه
لا أنت واصلة ولا أنا مقصر
لا تكتمي عني غرامك إنه
في كل جارحة لديك مسطر
قصائد الشاعر يتباين عدد أبياتها فمنها قصيدة البيت الواحد أو البيتين، ومنها ما قد يصل إلى تسعة وثلاثين بيتا.
منتهى العقل أن تعيش سليبا
في بلاد ترى الخناعة عقلا
رباه ما هذه الومضة القصيدة الومضة من بيت واحد جمع هذا المعنى الكبير الذي فجر مفردات اللغة بفكرة متوهجة في بيت يستطيع أن يبلغ أعماق أعماق قارئه.
يسافر الشاعر بقلبه وكلماته في بيداء الشعر، هذه الصحراء الحارقة التي يصطلي بهجيرها الشعراء وعندما يكرم كشاعر يشار له بالبنان يقول انه ليس شاعرا بل كان يتمنى أن يكون، وهذا من فرط تواضعه وهي السمة العامة التي تميزه.
مما سبق وعرضنا تتبين وتتأكد لنا شاعرية هذا الرجل الفذ فهو شاعر مطبوع يجيد صنعته الشعرية، وصف احمد المصلح قصائده بأنه يغلب عليها صفة الجزالة في الفظ حينا والرقة والرومانسية الحالمة في الأسلوب والغنائية البارزة في الإيقاع الوزني الموسيقي والإيقاع الداخلي بين الصور والخيالات الجامحة حينا آخر في قصائده ميل إلى استنباط الذات والعالم وتحويل مفرداتهما إلى واقعات نصية شعرية بتعبير النقاد المحدثين دون الإغراق في الغموض أو الرمز.
ناصر الدين الأسد شاعر متمكن، ومطلع واسع على مسيرة الشعر العربي قديمه وحديثه استطاع أن يحلق بالقارئ لآفاق رحبة ويسمو بفكره ويرقى بذائقته فاتحدت روحه معه لتصبحان ذاتاً واحدة.
هو العربي الذي يتتبع آثار مجد سحيق بين مدن لازالت العباءة العربية معلقة في خزائن تاريخها.. والأمجاد والآثار تعبق في رباها ورائحة العود العربي لا تزال تفوح من هناك كلما هبت ريح الشوق وعبق الذكريات.
يقف على أطلال قومه على مشارف المدن الأندلسية تبكي كلماته الماضي وتطرز بدموع الشوق والحسرة كلمات تذكرنا بماض كنا أسياده ومدن كنا ملوكها وديار لا تزال تتنفس أمجاد كنا تركناها ومضينا مرغمين.
زار ناصر الدين الأسد عاصمة صقلية كذلك لتتوالى عليه الذكريات فينزف قلبه من الحنين والشوق هذه الأبيات:
قام في موكب العصور يصلي
خاشع القلب للإله الأجل
يستعيد الماضي التليد ويتلو
صفحات من الفخار ويملي
يتجلى من حوله طيف رؤيا
من سناء يا حسن ذاك التجلي
وأريج التاريخ ينشر عطرا
من جلال في كل حزن وسهل
في روابي بلرم موطن مجدي
وطريق العلا ومرتع خيلي
قال لي صاحبي أغربت عنا
قلت: لا إنني هنا بين أهلي
باعد الدهر بيننا فنسينا
رحما حبلها وثيق بحبلي
نحن في كل نسمة من هواء
في رباها، وكل ذرة رمل
فتمهل ولا تلمني ضلالا
يا رفيقي، فليس ينفع عذلي
إنه شاعر بكل ما أوتي من شعر ومشاعر ومعلم متمكن وشيخ جليل استطاع أن يجعل الجامعة التي يعلم بها طلبته مكانا لصنع المعرفة وإنتاجها وليست فقط مكانا لتناقلها وتقلينها..
فلنا ألق إبداعه وفيض علمه ومعرفته وله الدعاء بطول العمل والمزيد من الإبداع والتألق في فضاءات اللغة والشعر والتاريخ.
maysoonabubaker@yahoo.com