الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد رائد من رواد الثقافة والفكر في الوطن العربي كله، رأت عيناه النور أول مرة في مدينة العقبة بالأردن عام 1922، وقد تعلم مبادئ القراءة والكتابة في المدرسة الابتدائية التي أنشاها والده في هذه المدينة، ثم تنقل مع أسرته في عدد من المدن من بينها: الشوبك، ووادي موسى، فمعان، وعمان، والقدس. وبعد حصوله على الثانوية العامة من الأردن التحق في أواخر عام 1944 بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول بالقاهرة وحصل منها على شهادة الليسانس في عام 1947، ثم الماجستير في عام 1951، ثم الدكتوراه في عام 1955وقد أشرف على دراسته في مرحلتي الماجستير والدكتوراه الأستاذ الدكتور شوقي ضيف. وقد كان موضوع رسالته للدكتوراه: (مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية)، وقد لقي الكتاب فور صدوره استقبالا مميزا من قبل الدارسين والباحثين لما اتصف به من عمق التحليل وموضوعية البحث.ولم تعجب بعض آراء الدكتور الأسد الواردة في هذا الكتاب أستاذَه الدكتور طه حسين، فقد ذكر الدكتور الأسد أن سكرتير طه حسين، الأستاذ فريد شحادة، أبلغه بأنه عندما كان يقرأ هذا الكتاب على الدكتور طه حسين كان هذا الأخير يقف من مقعده منزعجا.
وعندما كان الدكتور الأسد يتلقى العلم في القاهرة حرص على أن يغشى الندوات واللقاءات العلمية التي كان يعقدها كبار الأدباء المصريين في منازلهم من أمثال الدكتور طه حسين، ومحمود شاكر، والعقاد، وأحمد أمين، والزيات، وكامل الكيلاني وغيرهم . يقول الدكتور الأسد عن مجلس طه حسين: (كنت أؤم مجلسه حين كان لا يجد المرء موطئ قدم في ذلك المجلس الذي استمر عشرين سنة، حتى أصبحت أؤم مجلسه وليس فيه سوانا هو وأنا وحدنا بعد أن مرض وأصبح لا ينفع ولا يضر -هذه حال الدنيا) !
وللدكتور الأسد ذكريات شيقة عن بعض أساتذته تلقي مزيدا من الضوء على تصرفاتهم وشخصياتهم فقد ذكر الدكتور الأسد أن الدكتور أحمد أمين قد درسه مادة النقد الأدبي ثم أضاف قائلا: إن لأحمد أمين شخصيتين: شخصية كتابية وشخصية تدريسية، وشخصيته الكتابية أفضل من شخصيته التدريسية. كان أحمد أمين (يلجأ دائما إلى اللهجة العامية، وكان لا يحسن الارتجال أو الحديث أو التدريس باللغة العربية الفصيحة ... إنما الكتب التي أصدرها بعد ذلك... كان لها أثر كبير في من لجأ إلى البحث العلمي...) ويقول الدكتور الأسد: إنه لا يميل إلى أسلوب أحمد أمين في الأدب، وهو يرى أن أحمد أمين جيد في ميدان التاريخ الأدبي، لكنه ليس أديبا.
وعن ذكريات الدكتور الأسد عن الدكتور زكي مبارك يقول الأسد: إن زكي مبارك قد ظُلِم كثيرا، وأنه لذلك كان كثير الشكوى مما وقع عليه من ظلم وبخاصة من الدكتور طه حسين، وعزا سبب ذلك إلى ما في طبع الدكتور زكي مبارك من حدة وعدم مجاملة، وأشار الأسد في هذا السياق إلى سلسلة المقالات التي نشرها زكي مبارك في الرسالة تحت عنوان: جناية أحمد أمين على الأدب العربي والشعر العربي، وقد بلغت هذه المقالات اثنتين وعشرين مقالة.وقد ذكر الدكتور الأسد أنه عندما كان في السنة الأخيرة من كلية الآداب قرر هو وزميله العراقي الدكتور ناصر الحاني زيارة الدكتور زكي مبارك فاتصل به الدكتور الأسد لترتيب موعد لقاء معه وتم الاتفاق على أن يكون اللقاء في مقهى الأمريكيين، وهو مقهى معروف في وسط القاهرة، وبعد أن انتهى اللقاء دعاهما الدكتور زكي مبارك إلى العشاء على حسابه الخاص وذلك في أحد المطاعم المشهورة في التوفيقية، وأثناء العشاء سأل الأسدُ الدكتورَ زكي مبارك عن قصيدة له نشرها في مجلة الرسالة التي منها هذا البيت:
تناسيتكم عَمْداً كأني سلوتكم
وبعضُ التناسي العمدِ من صُورِ الُودِّ
ويضيف الدكتور الأسد: إنه ما إن أكمل إنشاد هذا البيت (حتى وقف زكي مبارك. كان يأكل فترك الطعام ووقف وبدأ ينشد القصيدة بصوت عال، فالجمهور كله تركوا الأكل، وبدؤوا ينصتون إليه ينشدها إنشادا فيه تطريب، القصيدة كاملة، ويبكي وينشد، ويبكي وينشد)، وبعد أن انتهوا من الطعام قال للأسد والحاني:ادفعا الحساب، مع أنه هو الذي دعاهما على حسابه كما سبق أن ذكرت. ويقول الدكتور الأسد إن زكي مبارك قد أحرجهما بهذا الموقف الذي وضعهما فيه وهما لم يستعدا له، فأخذ الدكتور الأسد يجمع ما معه من نقود والدكتور ناصر الحاني يجمع ما معه إلى أن فرجها الله.ويقول الدكتور الأسد: إن زكي مبارك (رجل فنان، وعلى سجيته لا يقيم وزنا لأشياء خارجة عن مشاعره، وعن إحساسه وتفكيره).
وقد زار الدكتورُ الأسدُ الأستاذَ عباس محمود العقاد في منزله فاستقبله استقبالا حارا فيه الكثير من المؤانسة والبشاشة والترحيب رغم ما عُرِف عن العقاد من تجهم وجبروت. ويذكر الأسد أنه لم يكن يميل كثيرا إلى العقاد، بل كان يعد نفسه من أنصار مصطفي صادق الرافعي.
وقد شغل الدكتور ناصر الأسد مناصب ثقافية في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية خلال الفترة 1954-1959، كما أنه قد درًس لطلبة الماجستير في معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة لعدة سنوات، وعمل عميدا لكلية الآداب والتربية في الجامعة الليبية ببنغازي خلال الفترة 1959- 1961، ثم استدعي إلى الأردن للمساعدة في إنشاء الجامعة الأردنية بعمان، وقد عمل أستاذا للغة العربية والآداب فيها، وعميدا لكلية الآداب، ثم رئيسا للجامعة خلال الفترة 1962- 1968. ثم عمل وكيلا للإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، والمديرَ العام المساعد المشرف على الشؤون الثقافية في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بالقاهرة خلال الفترة 1968- 1977. كما أنه قد عمل سفيرا للأردن لدى المملكة العربية السعودية خلال العامين 1977- 1978. ثم عين رئيسا للجامعة الأردنية مرة أخرى وذلك للفترة 1978- 1980، ثم عين وزيرا للتعليم العالي في الأردن خلال الأعوام 1985-1989. وعيِّنَ رئيسا للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية خلال الأعوام 1980-2000م.
والدكتور الأسد عضو في عدد من المجامع والمجالس العلمية في مصر، وسوريا، والأردن، والمغرب، والهند، والصين، وغيرها.
وتقديرا لإسهاماته العلمية والثقافية المتميزة فقد مُنِحَ عددا من الجوائز الهامة من بينها: جائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي، وجائزة سلطان العويس الثقافية، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب من الأردن، وجائزة الخوارزمي العالمية من إيران. كما أنه قد حصل على عدد كبير من الأوسمة من عدة جهات.
وللدكتور الأسد مؤلفات كثيرة لا يتسع المقام لإيراد عناوينها ناهيك عن الحديث عنها، وهي تتناول شتى الموضوعات قديمها وحديثا.
وقد أُلِفَتْ عن الدكتور الأسد كتبٌ متخصصة من بينها:
- ناصر الدين الأسد سَفَر في المدى :ملامح من حياته وأدبه، تأليف مي مظفر.
- ناصر الدين الأسد جسْرٌ بين العصور، تأليف مي ظفر.
- ناصر الدين الأسد ناقدا وشاعرا، تأليف أحمد المصلح.
- ناصر الدين الأسد: العالم المفكر والأديب الشاعر، تأليف أحمد العلاونة.
- ناصر الدين الأسد بين التراث والمعاصرة، كتاب أعدته عنه مؤسسة عبد الحميد شومان.
وبالإضافة إلى مؤلفاته الأكاديمية الرصينة، وبحوثه العلمية المتميزة فإن الدكتور الأسد ينظم الشعر أيضا، وهذا ما لا يعرفه الكثير من القراء، وقد صدر له مؤخرا ديوان شعر عنوانه: (همس وبوح)، وقد قسمه إلى قسمين يضم أولهما أشعارا نظمها قبل العشرين من عمره، ويضم الآخر ما نظمه بعد ذلك. وقد ذكر الدكتور الأسد أنه قد مزَّق بعض أشعاره، وهو الآن نادم على تمزيقه لها لأنها تسجل مراحل عزيزة عليه من عمره.
والدكتور الأسد بحكم تكوينه الأدبي وثقافته التراثية يميل إلى ما يعرف بالشعر العمودي ويرى أنه هو أصح أشكال الشعر، هذا مع اعترافه بأن بعض هذا الشعر لا يُعَدُّ شعرا حقيقيا وإنما هو نظم لا قيمة له. أما قصيدة النثر فإن الدكتور الأسد لا يستسيغها ولا يعدها من الشعر في شيء، ويتساءل عنها بحدَّةٍ قائلا: (هل يمكن أن تكون قصيدةً ونثرا؟كيف تكون قصيدةٌ نثرا؟ لماذا لا يقولون نثرا فنيا كما كنا نقول عن كتابات طه حسين في الأيام...وكتابات مصطفى صادق الرافعي؟.. لماذا تشويه المصطلح، لماذا الإساءة إلى العقل بتشويه المصطلح على هذه الصورة؟).
والدكتور الأسد من أبرز مناصري اللغة العربية الفصحى، الداعين إلى رعايتها والدفاع عنها ضد هجمة اللغات الأجنبية عليها وبخاصة اللغة الإنجليزية التي تسعى إلى إزاحتها عن موقعها لغة للعرب وتراثهم الفكري والأدبي. ويرى الدكتور الأسد أن أعظم تحَدٍ يواجه اللغة العربية اليوم هو عدم إيمان أصحاب النفوذ في البلاد العربية، على تفاوت ما بينهم، باللغة العربية (وإذا كان القادة السياسيون، والتربويون، والاجتماعيون، والاقتصاديون غير مؤمنين بهذه اللغة فهذا هو التحدي الأكبر لها).
الدكتور الأسد يزور المملكة كثيرا وله فيها أصدقاء ومحبون كثر، وهو الآن عضو في مجلس أمناء مؤسسة حمد الجاسر الثقافية، ولهذا فإن رواد خميسية الشيخ حمد الجاسر يسعدون برؤيته مرة واحدة في العام، وقد سعدت بحضور بعض المحاضرات القيمة التي ألقاها في هذه الخميسية الشهيرة، كما كان لي شرف المشاركة معه ومع أساتذة أجلاء من المملكة، وسوريا، وفلسطين في ندوة نظمتها الملحقية الثقافية السعودية في دمشق عام 1421 عن الشيخ حمد الجاسر ودوره في خدمة التراث العربي.