تعارفت الثقافات الإنسانيّة تاريخيّاً على أنّ المرآة هي الصديقة الصدوقة للمرأة، لكنّ المرايا ليست متشابهة، إذ تختلف مرآة عن أخرى باختلاف صاحبتها، وليس ذلك الاختلاف بالمصداقيّة، وإنّما بالحالة، ومن ذلك ما تختصّ به (مرآة الغريبة) عن غيرها من المرايا، حتّى أنّ (ذو الرمّة) شبّه خدّ ناقته بها، لعلاقة الصقل والصفاء بينهما، يقول:
لها ذنبٌ ضافٍ وذِفرى أسيلةٌ
وخدٌّ كمرآةِ الغريبةِ أسجحُ
وقد فسّر (أبو العباس المبرّد) هذه العلاقة بقوله: إنّ الغريبة لا ناصح لها في وجهها، لبعدها عن أهلها، فمرآتها أبداً مجلوّة، لفرط حاجتها إليها. لعلّ السؤال الذي يراود المرء هنا، هو إذا مازالت مرآة الغريبة تتمتّع بالمواصفات ذاتها، وإذا ما زالت الغريبة تحتاجها مجلوّة، وصديقة، وناصحة.
لا شكّ في أنّ المرآة تبقى قريبة من المرأة، لكنّها ليست القريبة الوحيدة في هذا العصر، وليست الناصح الأوحد، فثمّة اليوم ذوق تراكميّ يرتقي بالمدنيّة، وترتقي به، وثمّة (صالونات) للتجميل، ومجلاّت متخصصة في اقتراح ما يناسب كل امرأة بمواصفاتها الخاصّة، هذا عدا البرامج التلفزيونيّة الخاصّة ب(الموضة)، والأزياء، والتجميل، بل تشيع الآن القنوات الفضائيّة المعدّة لهذا الغرض...
هذا، وليست اهتمامات الغريبات متماثلة، ولعلّ أنس معظم الغريبات اللواتي عرفتهنّ هو الإنتاج الثقافيّ: الكتابة والقراءة، إذ تأنس الغريبة اليوم إلى الكتابة، والقراءة أكثر ممّا تأنس إلى المرآة التي تنظر إليها دقائق معدودة في النهار، في حين تقرأ وتكتب لساعات، ربمّا تكون النهار كلّه.
لقد أصبح المتلقّي هو المرآة، وتتجلّى العلاقة بين المبدع والمتلقّي بتعليقات القرّاء، ورسائلهم، وملاحظاتهم، وبطاقات شكرهم، لاسيّما أولئك الذين لا يرون المبدع، ولا يعرفون صورته وشكله، إنّهم يعجبون، ويعارضون، ويقدمون آراءهم، وهذا ما يؤنس الغريبة، وما تقرّ به عينها.
لا يلغي ذلك حضور المرآة طبعاً، لكنّ المرأة في هذه المرحلة من تاريخ البشريّة تستطيع أن تحصل على كلّ شيء: الأنوثة، والجمال، والثقافة، والأمومة، والحب، والعمل، والمال، وهي كما يقال ترتدي حلّة رجال الأعمال، وتضع أحمر الشفاه! ولعلّ الغريبة تستطيع أن تفعل ذلك أكثر، لأنها تعمل تحت كلّ من الضغط النوستالجي، والرغبة في إثبات الذات في مكان ليس مكانها، بل هي بذاتها مهمّشة فيه، والتهميش مصدر غير مسبوق للطاقة الإبداعيّة. ولو أنّ شاعراً، في عصرنا، أراد أن يأتي بوصف لشيء ما، لاستعار فضلاً عن مرآة الغريبة، كتابة الغريبة، أو قلم الغريبة، أو كومبيوتر الغريبة، وذلك على الحدّ الأدنى من الشعريّة!
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244