.. فرقٌ جليٌّ بين الدرس العلميّ لخدمة اللغة العربيّة الجامعة، والدرس غير العلميّ إرهاصاً ببديل انفصالي عن اللغة العربيّة الجامعة، وإنْ في أمدٍ غير منظور. بونٌ بين البحث في العامّيّة والترويج للعامّيّة، لتثبيتها في أفئدة النشء، وتثبيط أذهانهم عن تلقّي الفصيح أو استعماله.
ومن النافذة اللغويّة اليوم يمكننا أن نستشرف مستقبل الثقافة في الجزيرة العربية والخليج العربي بجلاء، فنرى أنها ثقافة مقبلة على أزمة حقيقيّة بين مطرقة اللغات الأجنبيّة وسندان اللهجات العاميّة، ومارد حسّها الموغل في قبليّته ومناطقيّته، الذي أخذ يتعملق خارجاً من قمقمه، بعد أن كان الطيّبون يحلمون أنه وعاء مثواه الأخير.
لقد باتت اللغات الأجنبيّة من جهة -لا الإنجليزيّة وحدها- وباتت العاميّات، بسحناتها المختلفة من جهة أخرى، تشكّلان تهديداً للتركيبة اللغويّة والثقافيّة العربيّة، وهاوية مُحْدِقة بالهويّات الوطنيّة والقوميّة العربيّة. هذا إلى الخلل في التركيبات السكّانية لبعض الدول أصلاً؛ الناتج عن طوفان العمالة الأجنبيّة، وغير العمالة الأجنبيّة من الفئات الوافدة والمقيمة. وها قد (أفرخ البَيْضُ" العربيّ اليوم عن شرعنة تلك الظواهر، ومنهجتها، وإيجاد القنوات لها، ووسائل البث المختلفة لتوطيدها، وضمان تزاوجها وتناسلها. وهو ما يحدث بكثافة لم يسبق لها مثيل، على صعيد التعليم والإعلام. أي أن تلك الأجهزة عِوَض أن تنهض بالدور المنوطة به من صدّ تيّارَي (العاميّة) داخلياً، و(العجمة) خارجياً، والارتقاء بالثقافة واللغة العربيّة، فإنها تُسهم في الانحدار، والتشجيع على الانغماس في هذين البحرين، وجذب المجتمع إلى قعرهما، بحجة الكسبَين: الجماهيريّ والماليّ؛ فمتلازمة الجمهور والربح المادّي قد باتت معيار الأوّليات المطلق في التوجّه الإعلاميّ والتعليميّ، فما لا يُدِرّ دراهم ودنانير وريالات وجنيهات وليرات ودولارات لا قيمة له اليوم، ولتذهب من بعد تلك المتلازمة كل المبادئ والقِيَم والأهداف الاستراتيجيّة العُليا لثقافة الأُمّة إلى حيث ألقت أُمّ قَشْعَم في سوقها!
وسيصبح حال مشرقنا العربي -(بين العاميّة والإنجليزيّة)- نسخةً من حال مغربنا العربي، (بين الأمازيغيّة والفرنسيّة). أي أن الفصحى مطحونة لا محالة بين شقّي الرحَى: (المحكيّة، واللغة الأجنبيّة). تلك الرحَى التي لم يرَ فيها وعي كاتب كالروائي الجزائري الطاهر وطّار إلاّ عدوّه اللدود؛ إذ -على الرغم من أنه وُلد في بيتٍ يتكلّم الأمازيغيّة، ليس فيه ورقة مكتوبة بالعربيّة غير المصحف، وعلى الرغم من أنه ليس برجل منغلق، ولا تقليديّ، ولا (إسلامويّ)، بالمعنى الحركيّ السياسيّ، ولا جاهل بلغة أجنبيّة، وقد تُرجمت أعماله إلى مختلف لغات العالم- فإنه يصرّح: (لو خيّرتُ بين هؤلاء الإسلاميّين وبين هؤلاء الإقصائيّين، لاخترت الإسلاميّين؛ لأني أؤمن إيماناً جازماً وقاطعاً بأن هؤلاء الإقصائيّين ضِدّ استقلال الوطن، وضِدّ اللغة العربيّة، ضِدّ الوطن من خلال معاداتهم للغة العربيّة، وارتباطهم بالخارج). (حوار أجرته معه (انشراح سعدي)، مجلة (اليمامة)، العدد 2003، ص51). وخطورة العاميّات العربيّة على اللغة العربيّة أكبر من خطورة الأمازيغيّة عليها؛ لأن الأمازيغية شِبه لغة أجنبيّة لطائفةٍ من الناس، وإنْ كان هناك من يُرجعها إلى جذورٍ عربيّة، أو أنها كانت فيها من تلك الأصول، بحسب تاريخ العلاقة العربيّة بالبربر. (والأرض تُوْرَث كاللغة)، كما يقول محمود درويش. وخطورة لغة منفصلة، وغير مفهومة لدى غير أبنائها، أهون من خطورة لهجةٍ تنخر في بناء الذهن اللغويّ من داخله؛ هادمة ما يسعى إلى بنائه التعليم، منحرفة عن مشروع العرب إلى النهوض منذ أكثر من مائة عام، ولا سيما أنها تكرّس لها الآن أرقى وسائل الإعلام، وأحدث آلات التقنية العملاقة (المشتراة)، من خلال القنوات الفضائيّة، والمهرجانات العظمى، والمسابقات الكُبرى، وتنفق في خدمتها الملايين، في تنافس محموم، لم يجتمع العرب على مثله قط، ولم يكن لهم في كلّ ذلك الهيلمان التقني والإعلامي ما ينتج فيلماً واحداً كفيلم (الشّقاق) -مثلاً- الذي أنتجه مدوّن سعوديّ هاوٍ، في العشرينيات من عمره، اسمه رائد السعيد، رداً على فيلم (فِتنة)، المسيء للمسلمين والعرب!
وفي هذا المعترك تأتي اللغات الأجنبيّة بديلة عن لغة عربيّة مهانة مضاعة، ولهجات مبعثرة مختلفة متخلّفة، لا تصلح لشيء، إلاّ للغناء على ربابة في مضارب أهلها! لا مراء في أن تعلّم لغة أخرى مهمّ للأمن من مكر قومها، كما لُقّنا قديماً، لكنّنا فيما يبدو قد أخذنا نمكر بأنفسنا نحن وبقومنا؛ إذ نوطّن اللغات الأجنبيّة في أوطاننا -على حساب اللغة العربيّة، المهمّشة (أصلاً) بالعاميّة- مع ما نمنحه تلك اللغات من إكبار لا تستحقّه، ومن تمجيد، وترسيخ، وتهويل من شأنها، وكأنها (وحدها) الكفيلة بأن تسلّمنا مفاتيح غرناطة ثانية، وبسواها لا مستقبل لنا! مع أنْ ليست اللغة الثانية في العمليّة التعليميّة سوى عنصرٍ من عناصر شتّى، أهمها المنهاج والمعلّم، والأخير لن يرتقي أداءه إلاّ بثلاثيّة: (التأهيل الجيّد)، و(الأجر المجزي)، ثم (المحاسبة الدقيقة). ولو كانت اللغة الإنجليزيّة حقاً مفتاح العلوم وسبيل التفوق في العالم -كما نُعلي من شأنها ونيمّم شطرها لتفتيق القرائح والعقول- لكانت أولَى بأن تؤدّي ذلك لأهلها، كطَلبة الولايات المتحدة الأمريكيّة، المتدنّي مستواهم مقارنة بطَلبة اليابان أو كوريا، ونحوهما من الدول التي تحقّق معدّلات عالية في نتائج طلبتها، دون الترامي في أحضان الإنجليزيّة؛ فلقد (أظهرت نتائج اختبارات العلوم لطَلبة الصف الثالث الثانوي تدنّياً واضحاً لطَلبة الولايات المتحدة الأمريكيّة، حيث جاؤوا في المرتبة السابعة عشرة، من أصل ثلاثين دولة شاركت في الاختبارات. أمّا في حقل الرياضيّات فكانت النتائج مزرية؛ حيث كان ترتيب الولايات المتحدة من بين خمس دول في ذيل القائمة. وقد دلّت البحوث التربويّة على أن المعلّم ركيزة أساسيّة في تحقيق أعلى معدّلات التحصيل العلميّ، حيث يفوق ذلك في أهمّيته عوامل أخرى، مثل عدد الطَّلبة في الفصول، وجَودة الكتب المدرسيّة، والوسائل التعليميّة، وحتى ما يُصرف على كلّ طالب). هذا الكلام ليس من عنديّاتي، بل هو ما ورد في مقالة ل(كلوديا ولس)، تحت عنوان (كيف نصنع معلّمين عظماء؟)، (مجلة التايم الأمريكيّة، الأربعاء 13 فبراير 2008م)، وترجمها إلى العربيّة: الأستاذ عبدالله علي الأسمري.
ولعلّ أحد السُّبل إلى تقريب الهوّة وصولاً إلى هدف التعريب والترجمة، والتعليم الجامعي باللغة العربيّة، هو قيام مجمع (فاعل) للّغة العربيّة والترجمة في بلادنا. وذلك كما تفعل كلّ أُمم الأرض الحيّة المستقلّة، التي تُنفق على الترجمة ونقل المعارف إلى لغاتها، وتوطين التقنية في بلدانها، بسخاء لا محدود، وتراهن على هذا النهج في بناء غدها، فيما العرب يُنفقون على الارتماء في أحضان اللغات مباشرةً بسخاء أسخى -قد لا يفوقه إلا إنفاقهم على العامّيّات- لكي يختصروا المسافات، وذلك بأن يترجموا أنفسهم هم إلى الآخرين! لسان حالهم: ولِمَ هذا (الغُلْب)، لنذهب نحن إليهم؟! ولو كانت المسألة تُحلّ بتلك السذاجة، لما رأينا الروس والفرنسيين واليابانيّين وسواهم ينفقون على الترجمة كل تلك الأموال الطائلة. غير أنهم -بطبيعة الحال- لا يملكون جسارتنا على الارتماء في الأحضان، لإدراكهم عواقب ذلك على الصحّة العامّة، إضافة إلى احترامهم لأنفسهم!
ولا شكّ أن جائزة الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالميّة للترجمة تُعدّ خطوة رائعة في هذه السبيل. وقد دعا -يحفظه الله- إبّان تتويجه الفائزين بالجائزة مؤخّراً إلى بذل المزيد من الجهد في الترجمة بين اللغة العربيّة ولغات العالم المختلفة. على أن حاجة الأمّة العربيّة لنقل العلوم والمعارف تفوق حاجتهم إلى التعريف بثقافتهم، فالعالم يعرفنا -ربما أكثر ممّا نعرف أنفسنا!- أي أن الحاجة إلى الترجمة إلى العربيّة تفوق الحاجة إلى الترجمة من العربيّة.
إن مجمعاً للغة العربيّة والترجمة في المملكة هو ما قد يحوّل الآمال إلى أعمال. إلاّ أن مجمعنا ما يزال، ونرجو أن لا يظلّ، حُلماً بعيد المنال في بلاد الضاد، ولا سيما أن المملكة كانت الأَولى به قبل أي بلدٍ عربيّ آخر. لعله يسهم في الانتقال بنا من مرحلة إلى أخرى: من مرحلة تعليم العلوم الطبيعيّة بالإنجليزيّة -التي عاشتنا القرن العشرين كلّه، ويبدو أنها ستعمّر لتعيشنا القرن الحادي والعشرين كذلك- إلى مرحلة التعريب والتعليم باللغة العربيّة، وإنْ بعد عمرٍ طويل، إنْ شاء الله!
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151»ثم أرسلها إلى الكود 82244
* عضو مجلس الشورى
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net