عزيزي القارئ.. ماذا سيكون انطباعك إذا قال لك أحدهم سأروي لك تجربتي الشخصية مع فلان ثم تكتشف أنه لم تجمعه بهذه الشخصية المرموقة الشهيرة يوماً؛ لا جلسة سمر ولا رحلة سفر؛ ولا طاولة عمل ولا مائدة طعام؛ ولم يتواصلا قط لا بمكالمة هاتف ولا رسالة ود؛ سترفع حاجبك الأيمن للسخرية والأيسر للاستنكار؛ ولكنه قد يظفر منك بعد ذلك بآذان صاغية لروايته؛ وهذا هو قصارى ما أتطلع إليه لأعرض مدى تأثري بشخصية معالي الدكتور محمد عبده يماني.
في صبانا لم يكن التواصل الإعلامي خارج حدود الدول يبلغ معشار ما عليه الآن؛ فوسائل الإعلام محدودة عدديا ضعيفة تقنياً موجهة حكومياً؛ ورغم ذلك كانت السعودية من أكثر الدول التي نعرف عنها وتتردد على أسماعنا أسماء العديد من مسؤوليها؛ ومن بين هؤلاء كان اسم وزير الإعلام الدكتور يماني اسماً رنانا يعكس طموحا مشروعاً لتجيير ثمرات الطفرة نحو إبراز المملكة إعلامياً ونفض غبار التعتيم؛ والتضليل الذي مارسه حيالها الإعلام الغربي المناهض لفكرة الصحوة الإسلامية والتضامن الإسلامي من جهة؛ والإعلام العربي مدعي الثورية والتقدمية ومحتكر العروبة والقومية، كانت مهمة ثقيلة تصدى لها رجل حالم، فاستطاع أن يترك بصماته.
كانت أول مرة أرى فيها معالي الدكتور يماني، عندما كنت طالبا في الدراسات العليا بمكة المكرمة شرفها الله، ورشحت للمشاركة في دورة للتأهيل الإداري للقياديين، كانت الدورة تقام في برج دلة بجدة، برعاية مؤسسة اقرأ الخيرية التي يرأسها معاليه، كان فريق التدريب أمريكيا، والمحاضرات بالانجليزية، وكانت مكثفة بشكل مرهق؛ وذات يوم أعلنوا لنا أن معالي وزير الإعلام الأسبق الدكتور محمد عبده يماني سيلقي لنا محاضرة باللغة الإنجليزية عن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حمل لي هذا الخبر عدة ملاحظات جديرة بالتأمل، فنحن لم نعهد من الوزراء والمسؤولين إقبالاً على مجالس العلم والفكر والأدب، ولا نعرف شيئا اسمه الوزير السابق، فالوزير المنتهية ولايته يتوارى عن الأضواء وكأنه انقرض؛ ووسائل الإعلام لا تنشر عنه خبرا واحداً اعتباراً من اليوم التالي لتركه منصبه، حتى ينشر نعيه في صفحة الوفيات، -أطال الله في عمر حبيبنا الدكتور يماني-، ثم محاضرة عن حب الرسول وبالإنجليزية!، دعنا نرى، وبالفرط سعادتي وانبهاري بالرجل، حب دافق لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، رقي في التعبير وسلاسة في العرض، فكر متميز وتمكن مذهل من اللغة الإنجليزية، محاضرة كانت العاطفة فيها تسبق المعلومة، فتسوقها إليها مقنعة تسكن القلب.
أعجبت بالرجل من لحظتي وتعلقت به وصرت شغوفا بالاقتراب منه والتعرف عليه، ولكن أنى لي هذا؟، عندما عدت تحدثت عنه مع زملائي بشغف، فأخبرني أحدهم بأن أستاذنا فضيلة الشيخ بدر الدين من المقربين من معاليه، فسارعت إليه ورجوته أن يصطحبني إلى معاليه، فوعدني بأن يلبي مطلبي في أقرب فرصة، وبالفعل اصطحبني إلى مكتب معاليه؛ فكانت سعادتي غامرة، إلا أنه كان مشغولا للغاية فقابلنا بحفاوة ورحب بنا في عجالة؛ ثم أهداني كتابين من مؤلفاته كان أحدهما (علموا أولادكم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولم تمض بي تلك الليلة حتى كنت انتهيت من هذا الكتاب الجميل السهل الممتنع الذي يفيض حبا وتقديرا لرسولنا الأعظم.
عندما استقر بي المقام في عروس البحر الأحمر، سمعت عن نادي جدة الثقافي الأدبي؛ ولكن حال الكسل والتسويف دون زيارتي له، حتى قرأت في الصحف أنه سيستضيف الدكتور محمد عبده يماني في ندوة عن تطوير التعليم، فسارعت لتكون هذه زيارتي الأولى للنادي، وكان مدير الندوة الدكتور عبدالمحسن القحطاني الرئيس الحالي للندوة، وكان يشارك فيها مع د. يماني الدكتور سعيد عطية أبو عالي، وكان موضوعها يهمني إذ كنت آنذاك مدرساً، وكزائر لأول مرة لم أكن أنوي المشاركة بالتعليق، بخاصة أن طرح المحاضرين كان موضوعياً ومنهجياً ومعتدلاً، إلا أن تعليقات بعض المعلقين استفزتني، لأنها كانت سطحية تصب فقط باتجاه النقد الهدام لأساليب التعليم التقليدية دون تقديم البديل، فكانوا كمن وصفهم أمير الشعراء أحمد شوقي:
لا تحذ حذو عصابة مفتونة
يجدون كل قديم شيء منكرا
من كل ماض في القديم وهدمه
وإذا تقدم للبناية قصرا
اضطررت أن انبري للرد عليهم والتزمت قدر ما استطعت بالهدوء والموضوعية والدعابة، وبعد أن عاد الميكروفون للمحاضرين للتعقيب الأخير، فوجئت بالدكتور يماني يشيد بطرحي ويؤيده ويثني عليه، فكانت شهادة كنت وما زلت أعتز بها. ثم أصبحت بعد هذا اللقاء مشاركاً دائماً في فعاليات النادي؛ بل عضواً فيه.
بعد ذلك واظبت على حضور شتى الفعاليات والمحافل الثقافية إلى حد الإدمان، وتعجبت من كثرة حضور الدكتور يماني لها، فأعجبني حرص الرجل على المشاركات الثقافية رغم كثرة أعبائه ومشاغله ومسؤولياته، وكان من بينها منتدى الاثنينية في دارة الوجيه عبد المقصود خوجة، وكان نجمها الدكتور يماني الذي كان يتحفنا في كل أسبوع بكلمة مرتجلة تكون مثالاً للبلاغة الرشيقة والعمق الثقافي والخبرات التاريخية، وعندما أتيح لي أن أكتب مقالا عن الاثنينية وما تعلمته منها، لم يغب عني الإشادة بمعاليه فوصفته بأنه شمس الاثنينية وقمرها، وعندما شاركت بقصيدة متواضعة نظمتها بمناسبة احتفال الاثنينية بيوبيلها الفضي، كانت عيني وأنا ألقيها تتابع نظرات الدكتور يماني، وكان استحسانه شهادة أخرى كنت وما زلت أعتز بها.
ليس بوسعي استقصاء كل المواقف التي جمعتني بمعالي الدكتور يماني، وكنت فيها جميعاً اقتعد مجلس تلميذ مصغ؛ لأستاذ كبير، وكانت الخلاصة أنه مدرسة تعلمت فيها الكثير، وأول الدروس الثقافية الموسوعية؛ فمن يظن أن هذا الرجل المتخصص في الجيولوجيا تتفجر أحجاره عن الإرشاد الديني والنقد الأدبي والموروث التاريخي والتفوق الإداري والعطاء الخيري، وثانيها أن الهدوء في الطرح أقوى بكثير من التشنج؛ وأن الوسطية والاعتدال هي المنهج القويم، وثالثها أن الحديث فن والكلام ذوق والبلاغة مهارة والاختصار تحدٍ والعبارات سلاح مضاء، ورابعها أن التواضع طريق لامتلاك القلوب، لا يسير فيه إلا من تفوق ثقته بنفسه وبفضل الله عليه اعتزازه بما جمعه من أموال الدنيا ومناصبها، وخامسها أن المفكر المبدع هو الذي يعايش الجماهير ويتفاعل مع نبضهم لا الذي يتقوقع في برج عاجي ثم يتكلم عن آمالهم وآلامهم، وذاكرتي إذ تخونني عن تعقب سائر ما تعلمته من هذا الرجل العملاق الذي لا يعرف شخصي البسيط، فإنني لا أملك سوى أن أشكره وأعتذر له.
*كاتب وصحفي برابطة العالم الإسلامي