أنا في الطريق إلى مكتبي لكتابة هذا المقال عن سيدي الوالد معالي الدكتور محمد عبده يماني - رعاه الله-، سألت نفسي كيف الوصول إلى داخل هذا الرجل الذي يشكل الشخصية الشاملة فهو: عالم، فقيه، مفكر، وزير، كاتب، محقق، باحث مؤرخ، مثقف.
أي من هذه المصطلحات العلمية والثقافية والاجتماعية أكتب وأحلل. تكون بداية الكتابة لطرح الأسئلة على النص الرسمي والشخصي والثقافي. واتجهت بتفكير هادئ قادني أن أجعل الكتابة معه تدور حول بعض المسائل والقضايا والإشكاليات الفكرية والثقافية، والاجتماعية، وفضلت ألا أنخرط في سجال حول عمله الوظيفي الحكومي، لرغبتي استفادة المتلقي من علم وثقافة هذا الرجل المتميز. إنه معالي الأستاذ الدكتور محمد عبده يماني وهو عضو في الكثير من المجالس الوطنية والاجتماعية والإعلامية والثقافية داخليا وخارجياً، عرف واشتهر معاليه بأنه..! رجل الاعتدال!..و.. (إنسان التسامح)..، يجذبني في شخصيه الفذة تواضعه الجم، وخلقه الحسن، بل وشياكته وأناقته في الشكل والملبس. هادئ في حواره، عميق في تفكيره، يحترم الرأي الآخر، يتقبل النقد بصدر رحب. لا يعيش كغيره من المثقفين أوهام النخبة، وجدت فيه كل صفات وتواضع العلماء. وهو صادق في رأيه يعشق القراءة والكتابة. لديه معايير نظيفة في العمل والتنظيم. بارع في زحزحة المشكلة التي أمامه ويعيد صياغتها بأسئلة جديدة وضوء أقوى. لا يحب الدخول والحديث في المناطق المحظورة، ولقد فشلت معه في ذلك. دقيق في صياغة أفكاره، وهي مرتبة والحديث عنه كمسؤول يطول بنا ويأخذ الكثير من أجزاء هذه المقالة، فهو إداري محنك، صارم، حازم في قراراته، متابع قوي لكل أعماله. يحب الترتيب والتنظيم في العمل. يعشق قضاء مصالح وحوائج الناس، يسمع من الناس شكواهم بأدب الكبار، لا يحب مقاطعة أحد في حديثه. يحرص على عدم رفض مطلب أحد من الناس ويحاول أن يشرح له أن مطلبه يتعارض مع المصلحة العامة أو لا يتفق مع الأنظمة والتعليمات.
ويلفت النظر في كلام اليماني أنه لا يحوي أي قدر من المبالغة. كما أنه لا يشفر علينا كلامه. وهو يدرك أن المبالغة صارت حملاً ثقيلاً على المجتمع. وسجله مخلوط بكثير من الثقافات.
وإذا كان الله قد يسر لأهل مكة المكرمة إنساناً موفقاً لفعل الخير وقضاء حوائج الناس، فاليماني هو ذاك الإنسان الموفق والرطب في اللسان والخلق. فهو أكثر الوزراء المكيين الذين خدموا أبناء وأهل مكة المكرمة بعد سيدي معالي الشيخ حسين عرب -رحمه الله- بل إن مواقفه تتصاعد إزاء الأعمال الخيرية الكبيرة. وفي هذا الجانب فإن اليماني لا يحب الخروج على الأخلاق في قضاء حوائج الناس. بل إنه يعمل وفق الثوابت الإسلامية والاجتماعية المكية.
فمثلا لا يحب أن تراجع النساء مكاتب الرجال والوقوف بينهم ومعهم. حتى لا تذل كرامتهن. لا أبالغ حين أصف الدكتور اليماني، بأنه أحد حراس السيرة النبوية في بلادنا، فهو عالم متمكن ومتفرد ومتميز ونابغ في هذه العلوم. ومفردات خطابه الثقافي والديني ومعانيه راقية ومتميزة في هذا الفن الكتابي. بل إن خصومه الذين عارضوه وأقاموا عليه الدنيا، واضطروه إلى طباعة وتوزيع ونشر ذلك المنتج الفكري خارج الوطن، لم يستطيعوا منعه أو إيقافه في هذا الجانب. ولهذا لا يعتبر محمد عبده نفسه.. (ضحية).. أو.. (فريسة)..، إنما اعتبر خصومه هم الضحايا. لقد كان البعض الكثير يصاب بالصدمة والدهشة مما ينشره ويكتبه المثقف الديني والسلطوي محمد عبده يماني، وهو الوزير الحافظ لدروس الوطن والوطنية، إلا أنه كان يسير في طريقه في كتابة هذه الكتب عن السيرة النبوية. ولم يتوقف حتى اليوم.
ولكن أود أن أقول أيحق لنا كمسلمين وكسعوديين أن نتساءل هل كان الأفضل أن تطبع وتنشر كتب اليماني في داخل الوطن أو في خارجه!؟. بدل أن تكون محجوبة عن الرأي العام، أم أن نشرها وكشفها وتقديمها للقراءة والمثقفين ورجال الدين قد يساعد الجميع على قول رأيهم في تلك الكتب، ولكن وتحت وطأة وظروف الضرورة اتجه اليماني بإنتاجه الديني والفكري لخارج الوطن وهذا مأزق يقع فيه وزير إعلام كان يصوغ القرار في هذا الجانب. ويومها تأكدنا أن مهمة اليماني صعبة، وصعبة للغاية، وآثرنا إنقاذ ما يمكن إنقاذه حين اتجهنا بإصرار غريب على شراء وتداول كل مؤلفاته الرائعة.
لم يكن المثقف محمد عبده يماني، وزير الإعلام..(عسكرياً).. بل كان حازماً، لطيفا، واستطاع أن.. (يصر الثوب) -كما يقول المثل المكي- في بعض الأحايين لحكمة لا أعرفها. ووجدت أن انسحابه يكون أحياناً حازماً ولطيفاً، وأيضا أن انسحابه يكون أحياناً حكمة، وليس تهرباً من مسؤولية كوزير إعلام، أقول هذا عبر تجارب شخصية. تميز اليماني وزير الإعلام بأنه كان يوفر لك كمثقف وكاتب الظروف المناسبة لتحقيق ما تريد. ويبعدنا من أي مكان يعيق طموحنا عن أداء دور المثقف والأديب والكاتب، وأذكر أنه عندما تقدمت بطلب إجازة كتابي - الأمراض الاجتماعية، ورفضت وزارة الإعلام إجازته أو منحه جواز سفر دخول لوطنه قال لي عبارة لن أنساها: (حتى يقضي الله أمرا كان مفعولاً)، اعترف اليوم بأنني لم أكن أدرك معنى مسؤولية الكلمة في تلك المرحلة المشحونة والممتلئة في داخلي، بالطموح والحماس والاندفاع، ولأنني كنت حينذاك شاباً متحمساً وليس طائشاً كما قال لي أحد المسؤولين بوزارة الإعلام في عهد اليماني، حين قدمت له: أنكم قادرون على تكميم الأفواه وتكسير الأقلام، ودائماً يقول لي: مشكلتك.. (يا رضي) -هكذا كان يحب أن يسميني الدكتور اليماني- أنك تملك إمكانات وقدرات وأدوات اقتحام مناطق القضايا المحرمة أو الممنوعة أو الملغومة دون أن تخشى العواقب، ويعجبني فيك أنك مستعد دائماً لتقديم الكثير من التضحيات، وليس كغيرك الذي يهرب من الاقتراب من تلك المواقع، والتي لها ثقافتها الخصوصية، يقول لي ذلك لأنه.. (أب مخلص) وصادق معي في مشاعره وأحاسيسه.
واليماني كمثقف ومفكر ووزير يملك اتساعاً في الرؤية ويملك رحابة متينة في النقد وتقبله، وأزعم أن وزير الإعلام الدكتور محمد عبده لم يكن وزيراً للنفي أو الإثبات كما يتهم بذلك، بقدر ما صاغ في وزارته مناهج جيدة للنقد وبمختلف أشكاله فيما عدا بعض.. (الذات) العليا والتي يصعب الاقتراب منها، والتي أسميها المناطق التي يسكنها الشيطان، وعانى اليماني كوزير من صراع حيث وجد أمامه ثقافتين كلها ترفض بعضها البعض إلى حد بعيد، وهما ثقافة المؤسسة الدينية، وثقافة المجتمع، ويعجبني في شخص فكر اليماني أنه سعى إلى نيل رضا كل الثقافتين، وأزعم أنه فشل في التقريب بينهما، بسبب ضغوط وظروف تفوق قدرات الوزير اليماني.
أنعم الله علي اليماني بمكانة تليق به وبعمره وبثقافته وقيمته الاجتماعية، فهو يعمل طوال النهار ويتابع أعماله وقضايا الناس، وقد يصاب بإغماء النوم في بعض المناسبات من شدة الإرهاق، ولكنه يجامل الجميع، لأنه يستمد قوة شخصيته من القيم والعادات الاجتماعية المكية الراقية، فهو ولد وترعرع ونشأ ودرس بمكة المكرمة، فكل مكوناته الأساسية تبلورت وتكونت وتشكلت في مكة المكرمة فمن هنا أصبح محمد عبده يماني.. (قامة وقيمة مكية راقية)، واليماني وطني من طراز مميز، واليماني إنسان يتعرض للسهو والخطأ والإجهاد، فعلى الجميع أن لا ينسوا أنه مثل بلادنا أحسن وأفضل وأرقى تمثيل في كل دور أو منصب أو وظيفة تقلدها.
كان الوزير محمد عبده يسعى بجدية واهتمام كبيرين من تغير النظرة العربية والغربية للإعلام والثقافة السعودية، لمعرفته أن تلك النظرة لم تكن واضحة ومتسخة بأوساخ الحاقدين، وأننا قادرين على التطور السريع، الذي يواكب متغيرات المرحلة، نعم أراد اليماني وزير الإعلام أن نتعامل مع الحضارة بقيمها الجديدة التي تحترم ثوابتنا فعلا فعل اليماني.. (فعله السلطوي)..، حين أراد أن يوضح عبر إعلامنا أن كراهية المسلمين والخوف منهم في الغرب غير مبررة ولا مقبولة.
وأذكر أن له حديثاً ذكر فيه الكثير من الأفكار الإعلامية وأهم ما فيه أن الدين الإسلامي لا يتعارض مع معطيات الإعلام الموضوعي، بل العكس يرى أنهما في حاجة بعضهما البعض، ولا اليوم اليماني حين يصرح بذلك لقناعة الكثير من المسؤولين العرب الذين يعتقدون أن مفهوم الثقافة والإعلام لا تضم (العقيدة الإسلامية)..
فعل اليماني ذلك القول وهو من علمنا أن حرية التعبير علاقتها بالدولة قوية ومباشرة ولا يمكن المساس بها، وكانت هذه الأفكار هي التي عقدت العلاقة بين المثقف والسلطة حينذاك، رغم قناعتي أن المثقف السعودي لا يحمل في دماغه أفكار معادية للدولة أو مضادة للدين والإنسانية، ولكنه يتفاعل مع المطلب الإصلاحي والمجتمعي، ولكن هنا أريد أن أبين للتاريخ أن وزير الإعلام الدكتور محمد عبده يماني، لم يتخلَ عن دوره كمثقف، ووقف مع الكثير من المثقفين والكتاب في أزماتهم المختلفة، وأنا أحدهم بل أنا أقف في أول صفوفهم فوقف هذا الرجل معي مواقف أقل ما توصف بأنها.. (رجولية).
ولم يكن اليماني في الوزارة يتعامل مع نظرة الكيل بمكيالين، داخلياً وخارجياً، وحتى في الخارج فلقد طرحت عليه ذات مرة سؤالاً من أسئلة المرحلة وقلت له: هل تتفق معي يا دكتور أنه لا يجب علينا أن نغير أنفسنا ليرضى عنا الغرب، وفي المقابل يجب أن لا نتوقف في تقدمنا الحضاري دون أن يعلمنا الغرب ذلك؟. فقال لي: اتفق معك في هذه النظرة.
وهذا ما جعل اليماني يرفض أن يستباح إعلامنا السعودي، ورفض استباحة الثقافة السعودية، رغم أن العواصف كانت تهب في حياتنا اليومية، وأرسلت لنا رسائل وإشارات كنا يومها نتجاهل خطورتها، وهذا خطأ كبير كان في منهجنا الإعلامي صمت عنه اليماني، وهذا مما يؤخذ على اليماني في فترة عمله، لم أتفق، ولن أتفق مع اليماني أو أي وزير إعلام يرفض أن نتصدى للعواصف والحملات التي تنظم ضدنا، لأن العواصف تأتي لتدمر، وبخاصة عندما تكون خارج اللحظة، وكنا يومها لم نراجع أنفسنا، لأن الخوف سيطر علينا، خصوصاً أن الخوف فينا عادة ما يرتبط بسمات أو خصائص نحملها في نفوسنا من طفولتنا.
ويحمد لوزير الإعلام أن الإعلام السعودي في عهده حارب الخطر الأخلاقي، وأصبح الإعلام كأنه أداة من أدوات شرطة الأخلاق التي تحرس قيمنا وأخلاقنا وعاداتنا وتقاليدنا.
وهذا ما دفعني أن أقول أن الدكتور محمد عبده يماني هو قامة وقيمة مكية ووطنية تسير في دم شرياننا.
والله يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض وساعة العرض، وأثناء العرض.