** لن أتحدث - في هذا المقام - عن فكر معالي الدكتور محمد عبده يماني المستنير.. وثقافته الإسلامية الواسعة ولو عن الجوانب الإنسانية (الثرة) التي تميز بها وعرف بوقفاته إلى جانب المسحوقين والبسطاء والمحتاجين، ولا إلى (نخوته) وأصالته وكرم أخلاقه ومحبته للناس وعدم تعاطفه مع الكذابين والمنافقين والمشائين فتلك خصائص معروفة عنه ولصيقة به.
** لكنني أريد القول إن معاليه وإن أتى إلى الإعلام من بوابتي التربية والجامعة بحكم عمله كوكيل لوزارة المعارف ثم مدير لجامعة الملك عبدالعزيز أكد أنه استطاع أن يحدث نقلة نوعية حقيقية عن الممارسة الإعلامية وتشكيل الرأي العام سيسجلها له التاريخ ويحتفظ له بها ويذكرها عنه مدى الأجيال.
** فهو أول من أصدر بياناً عن تفاصيل اجتماعات مجلس الوزراء حيث أقدم على هذه المجازفة دون سابق تنسيق أو ترتيب مع الملك خالد بن عبدالعزيز رحمه الله.. وقد توقع الكثيرون من المحيطين به أن يُحاسب على تلك الخطرة وأن يثير غضب الملك.. لكنه فوجئ بالقبول وبإشادة الملك .. وبتقدير الناس.. فأصبح ذلك تقليداً أسبوعياً دمج فيه الوزير الأكاديمي الناس في تفكير الدولة وفي اهتماماتها بشؤون المواطن ومواقفها تجاه قضايا العالم وأحداث الساعة.
** كما أنه يُحسب لمعاليه تحقيقه لسلطة الرقابة على الكتب والمطبوعات واستثناء الأدباء والمثقفين من السؤال لدى المنافذ الجوية وغيرها.. والسماح بعرض الكثير من الأعمال والمطبوعات (الممنوعة) من خلال المكتبات القائمة أو عبر المعارض المخصصة لذلك.
** فضلاً عن أنه أعطى الجامعات (وهو القادم من واحدة منها) حق بناء مجموعاتها المكتبية وإصدار دورياتها العلمية والثقافية مباشرة دون تدخل وزارة الإعلام.
** ولا ينسى الإعلاميون جهوده الكبيرة لنصرتهم والدفاع عنهم، والتصدي لقضايا النشر التي طالتهم وتسببت في الكثير من المتاعب لهم.
** إن بداية معرفتي بمعاليه كانت عندما كنت طالباً في جامعة الملك عبدالعزيز وكان مديراً للجامعة، وكنت أتردد على معاليه بحكم جمعي بين الدراسة والعمل في جريدة المدينة.
** وذات يوم وكنت أزوره في مكتبه علمت بأنهم ينظمون لقاء لأعضاء هيئة التدريس بجلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله.
** وقد أثار فضولي الخبر.. ودفعني إلى أن ألتمس من معاليه الموافقة على حضوري هذا اللقاء الهام.
** حاول معاليه الاعتذار مني بما عرف عنه من أدب ولباقة، لكن سماحته لم تزدنِ إلا إصراراً واستماتةً رغم إشعاره لي بأن اللقاء سري ويقتصر على مدير الجامعة ووكيله وأمين عام الجامعة وعمداء الكليات.
** وتحت إلحاحي الشديد وافق معاليه على ذلك.. وحذرني بأن أتصرف كصحفي.. وقبلت (شرطه) واندسستُ بين أعضاء الوفد ورافقتهم إلى الديوان الملكي بجدة.. وهناك قابلنا معالي وزير التعليم العالي الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ رحمه الله.
** وبعد فترة قصيرة من الانتظار، أطل علينا الملك بطلعته المهيبة.. وقمنا بالسلام عليه.
** ورغم دقة الموقف وحساسيته، إلا أنني لم أشعر بأي خوف وإن لاحقتني نظرات الدكتور اليماني وكأنه يقول لي: ابتعد كثيراً عن مواجهة الملك.. وأغلق أذنيك.. تصرف بمسؤولية.. فأنت أمام ملك عظيم الشأن.. وفي حضرة لقاء رفيع المستوى.
* وبدأ المليك يتحدث..
** وبدأت أتحرك في الكرس الذي أجلس عليه.. أحدث نفسي بأن أفعل شيئاً.. أريد أن أخرج القلم من جيبي... أن أسجل بعض الأفكار.. أن أوثق هذا الكلام الهام جداً من ملك (عظيم) إلى أساتذة جامعة تبدو عليه ملاحظات كثيرة على أدائهم..
** رمقني معالي الدكتور اليماني بنظرة قاسية وقد أدرك تحرك فضولي.. ونهرني بأدب.. وإلا فإن المراسم الملكية سيطردونني من المكان وأتسبب لهم في إشكالية.
** وسلمت أمري لله..
* ولذت بالصمت..
** ورحت أركز السمع.. وأحاول أن أختزن كلام الملك.
** وعندما انتهى اللقاء.. بحثت عن معالي الدكتور اليماني فلم أجده.
* لكنني وجدت نفسي (فجأة) أمام معالي الشيخ حسن آل الشيخ.. فتقدمت نحوه... وسلمت عليه بثقة غير معهودة.. وعرَّفته بنفسي (الطالب بجامعة الملك عبدالعزيز والمحرر بجريدة المدينة).
** رفع معاليه حاجبيه.. وكأنه يُعبِّرُ عن استغرابه: كيف جاء هذا الإنسان إلى هذا المكان.. وماذا عساه يعمل؟
** لكن معاليه بأدبه الجم قال لي:
** إنني أتابع نشاطك يا ابني.. ودمت موفقاً..
** فإذا بي اندفع نحوه وقد تشجعت كثيراً.. وعندها قلت لمعاليه:
** إن لي أملاً كبيراً في أن يوافق معاليكم على كتابة ما سمعت من حديث الملك إلى أعضاء هيئة التدريس.
** قال لي باستغراب: وماذا ستكتب؟! لقد قال الملك كلاماً هاماً.. وخاصاً.. وغير قابل للنشر؟
** قلت لمعاليه: لن أنشر إلا ما يخدم.. أرجوك يا سيدي أن تمنحني هذه الفرصة..
** في هذه اللحظة.. جاء معالي الدكتور محمد عبده يماني وسمع من معالي الشيخ حسن ما طلبته منه.. وبدا وكأنه يبرر لمعاليه مبدأ حضوري اللقاء، فقال:
** لقد طلبت من (هاشم) بعد إلحاحه في الحضور أن ينسى عمله الصحفي.. وأن يتصرف (فقط) كأحد منسوبي الجامعة.. لكن الأمر متروك لمعاليكم الآن؟!
** لقد كانت هذه الكلمات مشجعة لي ولمعالي الشيخ حسن - رحمه الله - فمازاد أن قال:
** دعوه يكتب ما يشاء.. وانظروا فيه واتخذوا بشأنه ما ترونه.
** نظر إليَّ الدكتور اليماني وكأنه يقول لي: (لقد ورطتنا).. وارتحت كثيراً لهذه النتيجة..
** وكان ما كان..
** فقد نشرت صفحة كاملة عن اللقاء.. ومن الذاكرة..
** وقامت الدنيا ولم تقعد في اليوم الثاني..
** فقد فعلت شيئاً غير مألوف.. وغير مقبول أيضاً.
** لكن الدكتور اليماني بكياسته.. وبمكانته الرفيعة لدى أولياء الأمر.. حماني من الفصل من الجامعة ومن الطرد من الصحيفة.. وتحول الموقف إلى (تهاني) و(تبريكات) من كل الأوساط..
** ولا تكاد تجمعني مناسبة بمعالي الدكتور اليماني إلا ويتذكر هذه الورطة التي وضعته فيها مرتين..
** وبدلاً من أن يعاقبني.. فإنه لم يتردد في استدعائي ذات ليلة وكنت (نائباً لرئيس تحرير جريدة البلاد) ويكلفني بمباشرة العمل من الغد (كرئيس لتحرير عكاظ) ويدفع بي إلى الصفوف الأولى ويمنحني فرصة العمل في الواجهة الإعلامية بعد سنوات من التعاون مع الإذاعة والصحافة والتلفزيون.. ولكن عن بعد.