رأيت الدكتور محمد عبده يماني أول مرَّة يوم كان وكيلاً لوزارة المعارف للشؤون الفنية، عندما يعتمر الغترة والعقال على طريقة المرحوم محمد عبدالله علي رضا، وهي طريقة استهوت بعض شباب تلك الأيام، ومن شاء تصورها فليرجع إلى مقالات الدكتور وصورته المنشورة معها في صحيفة الرياض قبل أكثر من أربعين عاماً، كان حينها خفيف الوزن راجح العقل، وكان ولا يزال على قسط كبير من الذكاء وحظّ وافر من مكر ودهاء لا يخطئه جليسه، يظهر ذلك بإجاباته الدقيقة وتخلّصه من المآزق والزوايا الحادة وقدرته الفائقة على التلاعب بمحدِّثه. وتقدَّم به السن وتقدَّم معه الرقّي بالمناصب فشغل منصب مدير جامعة الملك عبد العزيز التي شهدت في عهد رئاسته لها أكبر قفزاتها وأكثر نجاحاتها، ثم تسلم بعدها منصب وزير الإعلام فكشف عن مقدرة تؤكد ما قلته سابقاً من قدرة عجيبة على إدارة أكثر المؤسسات حساسية، وأثبت من أول جلسة لمجلس الوزراء شارك فيها أنه ملمّ بالعملية الإعلامية وعارف بدواخلها حيث ظهر على شاشة التلفزيون وفاجأ الناس بالتحدث عن جلسة المجلس وما دار فيها، وإعطاء ملامح عنها، فلم يصدق بعض الناس هذا التحول العجيب في الإعلام وحُسبت مكسباً له، واستمر هذا التقليد إلى يومنا هذا (ألم أقل لكم من قبل أن هذا الرجل على قسط كبير من الذكاء وحظٍّ وافر من الدهاء). وشهد الإعلام في عهده قفزات وتحولات خاصة في مجال التقنية الفنية، والأقمار الصناعية والتوسع في أعضاء المؤسسات الصحفية. ثم غادر الإعلام الى الأعمال الخاصة والشركات العملاقة، ولكن لم يغادر الوهج والأضواء فله في كلِّ مناسبة حضور وفي كلِّ محطّة حديث وفي كلِّ صحيفة مقال وفي كلِّ عمل شعبي واجتماعي مجال، فهو عضو في كثير من اللجان ورئيس للكثير من المجالس والجمعيات والشركات فلم ينطو على نفسه ولم ينزو في داره ولم يَدُر في حلقة ضيقة مع أشخاص محدودين ونفر معدودين، وهذا دليل آخر على ذكاء الرجل ورجاحة عقله.
ومع كل هذا وأكثر لا أدّعي أنني أحيط بكل شيء عن الرجل إلا أنني أزعم أن للرجل مواقف تشهد له بالسماحة والمروءة والفضل والعقل فكل من يزوره في مكتبه يلحظ ويشاهد العشرات من الناس يقصدونه للشفاعة والمساندة والمساعدة فتراه يكلِّف بعض موظفيه بإنهاء طلباتهم وتحقيق أكثر شفاعاتهم.
وقد سألتني جريدة المدينة قبل عدة سنوات أن أوجّه ثلاث رسائل إلى ثلاث شخصيات وكان الدكتور محمد عبده يماني أحد تلك الشخصيات. وأتذكّر أنني كتبت عنه قائلاً: لقد شَغَلَ الرّجل نفسه بالصلح بين الناس والسعي في مصالح بعض المحتاجين والإنشغال بإصلاح أخطاء المسلمين فكأنَّه المعني بقول الشاعر القديم يصف أحد المصلحين القدامى:
فتراه بالإصلاح مُغراً كل
ما وجد السبيل إلى صلاحٍ سَارَ
حتى كأن عليه عهداً للعُلا
أن يُصلح الأخلاق والأفكار
بعض ما عَلِقَ بذهني من مقالتي قبل سنين...
ومن مزاياه التي تحسب له تقديره للفضلاء وإنزاله الناس منازلهم فقد لقيته عدّة مرات مع المرحوم -فقيد مكارم الأخلاق- أستاذنا عبد العزيز الرفاعي فرأيت كيف يكون حفظ كرامة أهل الفضل وتقدير ذوي العلم والعقل، كان الرّجل لا يكاد يلمح الأستاذ الرفاعي إلا وينهض ليلاقيه قبل أن يصل إليه ثم يتبسَّط معه في الحديث ويبالغ في التقدير وينصت بين يديه إنصات العارف بفضل الداخل عليه، وكثيراً ما طَلبَ رأيه واستشارته في أمور أدبية وشؤون ثقافية. وهذا ليس مع الأستاذ الرفاعي بل مع كل كبير من أدبائنا وفضلائنا من مختلف أنحاء المملكة من أمثال حمد الجاسر، عبد الكريم الجهيمان، وأحمد عبد الغفور عطّار لا يفرق بين أحد منهم فله صداقات واسعة في نجد، وأهل وأقرباء في الحجاز وأحبّاء في الأحساء وحائل. وهذا جعله يلّم بالكثير من أخبار الرِّجال والأخيار وسيَر العصاميين والمكافحين من أمثال السّيدين طاهر الدبّاغ وصالح شطا وغيرهما، فليته يسجِّل ذلك ويحفظه للأجيال ليرى الأحفاد كيف صبر وصابر أولئك الروّاد، ولإحياء ذكرى وذكريات المكافحين الصادقين.
كل من يقابل محمد عبده يماني ويراه بالمشلح والعصا والثوب الشعبي والمظهر العادي لا يعرف أنَّ وراء ذلك ذكاءً مستأنساً في مظهرٍ متدروشٍ وهذا يدلُّ على أنه عميق النظرة مهموم بالفكرة دائم العبرة.
إن الحديث عن الدكتور محمد عبده يماني يغري الكاتب بالتطويل والاستطراد وأحسَبُ أنَّ كل من عرفه أو تعامل معه لديه الكثير فمالي أذهب لأحصي مزايا رجل بُسِطَ له القبول وعُرف بين الناس بالكثير من المزايا، فلو سألت (أكثر الأدباء الحقيقين لا المزيفين) لقالوا لك عن الرجل الأعاجيب وزادوا على ما قلت ولكن مع الأسف لا يخلو إنسان من ضدّ وعامل من عاذل.
كيف والشاعر القديم قد سبقني إلى هذا المعنى وكأنه يطلّ من خلف حجب الماضي البعيد ليقول:
ليس يخلو المرء من ضدّ ولو
حاول العُزلة في رأس الجبل
لقد سمعت مع الأسف بعض الذين أَحسَن إليهم يشككون في مقالته ومؤلفاته ويحاولون أن يسمموا أفكار بعض الناشئة مدّعين عليه بدعوى باطلة (إنه فحيح الأفاعي وخساسة الأصل والمنبت).
وقد ابتُلي منذ القِدَم الكثير من الفضلاء بمثل هؤلاء، لا أحب أن أدافع عنه أو أدفع شبهات المبطلين، وإلا فمن يتحدث مرتجلاً لساعات أمام الناس في المحاضرات المنقولة على الشاشات ومن يَظهر في البرامج الحوارية يردُّ على أصعب الأسئلة وأكثرها شوكاً وشائكة. هذه كلمة حق أمليها وأغليها استجابة لرغبة الأصدقاء في المجلة الثقافية للمشاركة في ملف ينشر عن (أبي ياسر)، لا أقول إنني أتيت فيها بكل شيء ولكني قلت بعض الشيء عن رجل يستحق منّا كلَّ التقدير في حياته ومن أراد المزيد فليراجع بعض مؤلفاته.