كنت مرة مع رجل من أهل مكة المكرمة وجاء حديث عن الدكتور محمد عبده يماني، وعندها بادر الرجل المكي ليقول لي: إننا في مكة نسميه ابن مكة البار، وراح يتحدث عن الأعمال الخيرة التي يقف وراءها هذا الرجل الخير محمد عبده يماني، وعندها تذكرت كلاماً قاله لي الصديق الأستاذ عبدالرحمن الصالح العثيمين وقد كان المدير العام لمكتب مدير الجامعة في جدة وقد ذكر لي عن مبادرة الدكتور اليماني لفعل الخير وقال إنه لم يطرق باب مكتبه أحد في طلب الشفاعة إلا وبادر الدكتور إلى كتابة خطاب يتشفع به لأهل الحاجات ولا يتوانى في ذلك سواء عرف طالب الشفاعة أو لم يعرفه سواء له وجاهة عند المتشفع إليه أم لا، لقد كان يفتح الأبواب للناس فإن انفتحت فذاك وإلا فإنه قد طرق باب الخير، وهذا ديدن كريم لم يفارق الدكتور ولم يتخل عنه، وفي أحد معارض الكتب في جدة حصلت حادثة بشعة وتصرف بعض البيروقراطيين في غلق جناح إحدى دور النشر في عز أيام المعرض وجاءني الخبر كالصاعقة وأنا في الرياض وبدأت أشغل هواتفي ورأسي باحثاً عن حيلة لحل المشكلة واستعنت بأناس من بينهم الدكتور محمد ولقد وجدت منه أريحية في التجاوب والتفاعل إلى درجة أنه عرض علي أن يذهب معي إلى الملك متبرعاً بوقته ووجاهته ومصدقاً لي فيما قلت وفيما تبنيت ثقة منه بي وحباً منه لعمل شيء وطني وثقافي مشرف.
لم أعرف الأستاذ الدكتور محمد عبده يماني معرفة وثيقة إلا بعد أن ترك كل المناصب، وإن كنت قد قابلته مرة واحدة حينما كان مديراً لجامعة الملك عبدالعزيز وكانت مقابلة روتينية بغرض توقيع تذكرة سفري إلى لندن مروراً بالقاهرة، ومرت أيامه في الجامعة وأنا في البعثة، وحينما عدت كان هو وزيراً للإعلام وهي وزارة ليس لي معها شأن لا من قريب ولا من بعيد - ومازلت ومازالت كذلك -، ولكن حينما ترك الوزارة وجاء إلى جدة كانت عودته إلى الجامعة ومثلها إلى المجتمع وصارت لقاءاتنا تتكرر مرتين أو ثلاثاً كل أسبوع في النادي وفي الاثنينية، وعندها صرت أعرف الرجل مباشرة، عرفت أخلاقه ومروءته، وعرفت وطنيته وصدقه، ومنها أنه تحدث مرة عن الجامعات ودورها في غرس الوطنية، وقال إنه يخاف من تكرر التخصصات في الجامعات، ولم يكن خوفه لسبب أكاديمي وإنما كان لسبب وطني حيث يرى - وهو صادق - أن حرمان الفتيان من التنقل بين أرجاء الوطن طلباً للتخصص العلمي سيحرمهم من مباشرة الحالة الوطنية، وقال تصوروا لو أن طالب الشريعة درس في مكة بينما طالب الزراعة يدرس في القصيم، بدلاً من أن يبقى المكي في مكة ويجد كل مراده العلمي فيها دون ترحل، وكذا ابن القصيم الذي لا يغادر داره، وفي ذلك انغلاق في خيال الشاب وفي تجربته وفي معايشته لحال الوطن، وفي الماضي كان الناس يترحلون بين المدن والمناطق طلباً للتخصصات وكان الناس يتعرفون على وطنهم بدءاً من اللهجات حتى الوجوه وحتى الأطعمة وصولاً إلى العقليات والعواطف والخصائص الذاتية.
ذاك منظور وطني يصدر عن وجدان صادق هو وجدان محمد عبده يماني، وكم تحدث عن أيامه الأولى في الرياض حينما ذهب هو ومجموعة من أبناء مكة المكرمة للدراسة في جامعة الرياض التي فتحت سنتها، وذكر قصتهم مع صاحب التاكسي الذي طلبوا منه إيصالهم إلى الجامعة فأخذهم إلى جامع الصفاة، ولم يعرف عن وجهتهم إلا بعد جهد جهيد حينما بذلوا المحاولات ليشرحوا له عن الفرق بين الجامعة والجامع، وعرف بعد لأين حينما سألهم عما إذا كانوا يريدون المدرسة الكبيرة التي فتحت في الملز، وأخذهم إليها وبقيت القصة لتكون علامة على تحول في اللغة وفي المصطلحات ولقد أحلت إليها في كتابي (حكاية الحداثة).
لذاكرة الدكتور يماني أبعاد عريضة وعميقة كلها وطن وثقافة وتاريخ ومحبة، ولي منها نصيب كبير، ومن ذلك ما حدث في مؤتمر الأدباء السعوديين الثاني في مكة المكرمة حيث تكالب علي ثلاثة معقبين (امرأة ورجلان) ولقد انقض الثلاثة على المنصة بعد أن طرحت ورقتي وتكلم كل واحد منهم بكلام لا يليق خلقياً ولا علمياً في مشهد ومسمع من الجميع ولقد آثرت حينها تجاهلهم وتركتهم يقولون قولهم دون رد مني؛ لأن كلامهم يرد على نفسه، وشغلت نفسي ووقتي بالتحاور مع المتداخلين والمتداخلات علمياً ومعرفياً، ولكن الأستاذ الدكتور اليماني لم تسمح له غيرته العلمية والأخلاقية أن يترك الأمر ولذا بادر بكتابة مقال رفيع القيمة مثل رفعة صاحبه وبعث المقال إلى ثلاث صحف سعودية ونشر المقال فيها كلها، وفيه إنصاف وشهادة حق من رجل محق وذي ضمير وطني مخلص ولقد شجب تصرف الثلاثة وقال شهادته وكلمته التي يرى وجوب قولها، ولقد تجاوبت مع الموقف وكتبت كلمة بعنوان (وإنصاف ذوي القربي) شكرت فيها صنيعه الذي ما كان ولن يكون غريباً منه ولا عليه، وهو الرجل المنصف والصادق والمخلص وصاحب الضمير الوطني الحر والمؤمن وكم كنت أرى وجهه وبسمته وبشاشة جبينه وأقول إن هذه طلة تصدر عن ضمير نقي وعن مضمر نوراني يشع الضوء على الوجه البشوش والقلب المحب.
هذا رجل هو علامة وطنية وهو صورة لمعنى الوحدة والترابط ومعنى الوفاء والحقيقة.
وتحية مني ومن كل أبناء الوطن، تحية لا تنتهي لمن هو بمثل هذه الخصال النبيلة والخلق الرفيع.