رغم وجود أصوات تجهل أهمية النقد أو تتجاهل وجوده أو تحاول التقليل منه، إلا أنها لا تشكل أي أثر أو قدرة على مواجهة الجانب الآخر من الأصوات التي يمثلها نخبة عالية المستوى في الوعي والثقافة التشكيلية بكل أبعادها عوداً إلى تشبعهم بمنتجهم وقناعتهم بوجوده، هذه الأصوات الداعمة تسعى لتفعيل النقد وتدفعه للتواصل حريصة على تقويم أدائه بالتجاوب معه بمختلف أساليب الجدل المتزن، الصاخب منه أو الهادئ، نتج عنه فعل إيجابي سيساهم في تهيئة وصناعة الحوار المفتوح والارتقاء بمستوى الوعي الحضاري لدى التشكيليين معلنين اعترافهم بحقيقة الأقلام التي تستمد حروفها من خبرات تتجاوز الأربعين عاماً عايشت فيها ولادة جديد الأجيال في الساحة إضافة إلى قربها من رواد البدايات مما أتاح لها بكل فخر قراءة الواقع بكل مستوياته وإجادة فصل الغث من السمين، بتحليلها دماء الجسد التشكيلي، مكتشفة مكامن الجمال في كل قطعة إبداعية بمتابعة مستفيضة لحالات نشأتها ونضوجها.
غياب الوعي
والحقيقة أن قضية النقد وما عليه من إشكاليات ليست وقفاً على الساحة المحلية فهناك من كبار النقاد في العالم العربي من أجمع على أن الناقد العربي موجود لكن الأمر يتعلق بالساحة التشكيلية ولنا في عبارات للناقد والفنان عز الدين نجيب أحد رموز النقد في مصر وأكثرهم جدلية مع الساحة مجيباً على سؤال حول ما يُقال إن الناقد في مصر غير موجود بقوله: أعتقد أن هذه الأحكام ذاتية وليست موضوعية، فإذا أبرز الناقد أحد هؤلاء الفنانين وأشاد بعمله سيكتب في اليوم التالي: (تُوجد بمصر حركة نقدية مزدهرة ونقد تشكيلي) والعكس أيضاً صحيح، ويضيف أن النظرة الموضوعية تقول إنه يوجد نقاد لكن لا توجد حركة نقدية، وهناك فرق بينهما، فالنقاد يعملون بمنطلقات خاصة بكل منهم لكنها تشكل توجهاً لجميعها، مثل الحركة الفنية التشكيلية في مصر بها عدد كبير من الفنانين التشكيليين، نستطيع أن نرى من خلالها رؤية مشتركة للحركة، بينما على مستوى النقد فلا يوجد تأسيس نظري ولا منابر كافية، ولذا فإن كل ناقد يكون عصامياً أي يكوّن نفسه بوسائله الخاصة.
دور النقد المحلي
الواقع أن حال النقد في كل أقطارنا العربية يحتاج إلى وقفة مشتركة بين النقاد من خلال إقامة ملتقيات تقوي وجوده ودوره من خلال قواسم مشتركة والبحث عن سبل القصور ومعالجته انطلاقاً من أهم معوقاته وهو الوعي إذا علمنا أن النقد ينطلق من وعي المجتمع التشكيلي، وعي بما يعنيه النقد ضمن منظومته الاستعارية والرمزية.. وإذا عدنا لمجتمعنا لوجدنا أن الساحة التشكيلية المحلية لم تكن مهيأة لاستيعاب هذا النقد نتيجة جهل الكثير بهذا الجانب مع أنه مرتبط بتاريخ المدارس التشكيلية المعروفة عالمياً التي ساهم النقد فيها بشكل كبير، إلا أن الشواهد وملامح ولادة النقد المحلي تحفظ ما قامت به بعض الأقلام التي لامست التغيرات التي طرأت على الساحة وأسهمت في تقريب مفهوم التفاعل مع الجديد ونقلها آراء التشكيليين أصحاب التجارب حول تجاربهم خصوصاً في الفترة التي بدأ فيها المجددون في مجال تطوير العمل الفني والمتخصصون فيه أكاديمياً أمثال الرواد من الفنانين منهم محمد السليم وعبد الحليم رضوي وخالد العبدان، مع من استمر بعدهم من الأحياء منهم على سبيل المثال: الفنانون عبد الله الشيخ طه صبان عبد الرحمن السليمان كمال المعلم عبد الله حماس أحمد ماطر فهد الحجيلان زمان جاسم.. إلخ.
إذاً فالنقد كان موجوداً بأقلام محلية وعربية إلا أن ما كان يطرح يعد في ذلك الوقت مغامرة نتيجة معرفة هؤلاء النقاد بعدم نضج الساحة باعتبار أن ما يتم فيها لا يتعدى هدف التشجيع الذي يتوجب غض الطرف عن سلبياتها فأحدث هذا التجاهل في مجال النقد ما أنجزه أولئك المبدعون في وقت كانت فيه تجاربهم في أمسّ الحاجة للدفاع عنها والتعريف بها أمام مواجهات المجتمع التشكيلي وتأويلاته واعتراضاته على موجتهم الفنية المعاصرة واعتبار هذا التحرك تقنياً أو رؤى فكرية من قبل هؤلاء المبدعين في توظيف العناصر أمراً غير مألوف مقابل ما كان سارياً في تلك المرحلة من اهتمام بالموروث الشعبي المادي وتسجيله فوتوغرافياً.. ففقدت تلك الأساليب الحديثة التي سبقت عصرها نصيبها من التعريف والدعم أسوة بما وجده الكثير من تجارب الفنانين العرب في بلدانهم واستطاعوا تحويل مسار الإبداع المطابق للصورة الفوتوغرافية أو الفن الفطري الساذج إلى مرحلة جديدة تكشف عوالم اللوحة وأفقها وتستدرج صياغتها لتجسد فعل النشوة لاستحضار الوجدان.
النقد في ظل
تدني الوعي
لقد ساهمت الكثير من الأقلام عبر الصفحات الثقافية أو التشكيلية منها أقلام لنقاد سعوديين وأخرى لأشقاء عرب في إحياء الساحة وتحريك الساكن فيها، كان لها الدور الهام والكبير في البناء رغم إغفال البعض للنقد وتصديهم له وسعيهم لإحباطه، لكن الأدلة على دور النقد في الساحة السعودية واضح لمن يعي الساحة ويعرف سير تطورها وتوجهها، كانت الأقلام السند الداعم المبرز لهذه التحولات.
ومن المؤسف أن التعامل مع النقد في وسطنا التشكيلي في الساحة المحلية يتم تداوله بسرية كاملة لا تختلف عن سرية توزيع الممنوعات، وهذا ناتج عن افتقادنا للوعي الناضج القادر على تقبل الرأي الآخر خصوصاً حينما يطرح هذا الرأي أمام الأعين بكل وضوح ليتيح الفرصة للآخرين في التفاعل بنقضه أو تأكيده، ولنا في تجربة النقد المغلف أو المقدم بشكل سري ما يبحث عنه بعض الفنانين عند عرضهم لأعمالهم في معرض شخصي أو مشاركة في معرض آخر من طرح أسئلة عبر الهمس مع فنانين أصحاب تجارب أو أصحاب أقلام معروفة يبحث فيها هؤلاء الفنانون عن رأي حول أعمالهم مع حرصهم على كسب الثناء لا أن يسمعوا العيوب، دون وعيهم بأن سؤالهم لهذا الشخص يعني اعترافاً به ناقداً فكيف يرفضون رأيه حينما يعلنه عبر مقال أو تحليل لمعرض.
هذه المواقف والسلوكيات إن جاز التعبير تجعلنا نقف عند الحلقة المفقودة وهي (الوعي) فغالبية من بالساحة لا يتعدى وعيهم حدود التنفيذ دون فهم أبعاد بما يتم القيام به مغفلين حوار الذات أولاً (لماذا ولمن؟).. مفتقدين بذلك الإجابة على استفسارات الرأي الآخر.. (من أين وماذا يعني وكيف تم ذلك؟) مع ما يفتقر له أولئك من علم بمعنى وجود أعمالهم في معرض يحق لكل مشاهد أن يراه بزاويته بما فيهم (الناقد) خصوصاً أن العمل قد وضع تحت الضوء ويحق لكل مشاهد إبداء رأيه فيه مع أن النظرة هنا نسبية لا يمكن أن يجمع عليها الحضور بعكس الناقد بما لديه من أدوات يحكم بها على العمل منها متابعته للفنان ومعرفته لكل ما يتعلق بالأدوات الفنية وبالثقافة التشكيلية التي تعتمد على متابعته لكل ما يطرأ على هذا الفن عالمياً وعربياً ومحلياً ولديه مختزل كبير من معرفة التجارب في كل فروع الفن التشكيلي.. يؤطرها بعلم تلقّاه بشكل أكاديمي يؤهله لكل تلك المعطيات وفي مقدمتها دراسته لتاريخ الفن.
إن لدينا من الأقلام والقدرات النقدية ما يمكننا من إيجاد ساحة تشكيلية قادرة على فهم واقعها قادرة على مواجهة الجديد تبني علاقاتها البصرية على أسس مرجعية ثقافية لا تحتاج إلا لبيئة صحية قوامها الفنانون أنفسهم وفهمهم لكيفية ارتقاء الوعي المؤدي إلى مرونة التعامل مع الجدل الراقي باعتباره ضرورة لإعادة إنتاج أسئلة تحقق الاستقرار بدلاً من الارتياب، والأمان مقابل الخوف، لنخلد الأثر من خلال المنتج المكتمل البنية.
جدلية البحث والخوف من النقد
إننا اليوم أمام نقلة كبيرة وتحرك نحو التغيير لخلق خط متوازٍ مع كل ما طرأ على هذا الفن وإزالة أسباب الجدل في الذات لدى الفنانين في كثير من المفاهيم ومنها التعلق بالموروث وفهمه في حدود مغلقة لا تقبل التحرك والانعتاق من ضلال الفكرة السائدة بأن استلهامنا لأي منتج شعبي نفعي يعني الهوية، وبين تأسيس منهج الوسطية بين هذا الموروث وبين ما يطلق عليه الآخر الحداثة وأهمية النقد باعتباره العين المراقبة، التي تملك حدساً يكشف ما وراء العمل (النص).
أخيراً نختم بالقول إن في ساحتنا من المبدعين الواثقين من تحركهم الجمعي والفردي من وجد النقاد منهم الدعم والتقدير في كل ما تسطره أقلامهم.. كما أن النقاد في هذه الساحة ممن حملوا أقلامهم وصنعوا أدواتهم بعصامية على مدى سنوات طويلة، قد سجل لهم تاريخ الساحة الجهود الكبيرة مع ما حظوا به من إشادات النقاد العرب فأصبحوا جزءاً من منظومة النقد التي لا يمكن الاستغناء عنها.