لماذا الناي؟ ولماذا هذا القِدَم بشريط من 1973هـ؟ ربما لأن محمد حبيبي لم يرد أن يقدم شعراً ولا صورة وأراد أن يقدم تاريخاً، أراد بقصيدته المصورة (غواية المكان) أن يمارس الشعر دوره التاريخي (ديوان العرب) أن يكتب تاريخاً حديثاً قديماً بقصيدة تصف المكان وتؤرخ لحقبة زمنية بشخوصها وأماكنها.
أن يمارس ما تمارسه الرواية وسحبها لبساط التدوين من الشعر الشاط بوجدانياته، أراد للشعر بالصورة والصوت أن يؤرخ لدعشوش ونايه، لتلك المرأة التي تطوف في الطرقات حتى قطتها، لذلك الشيخ الذي لفظته المدينة فعاش بائساً ومات وحيداً.. لقريته بتفاصيلها ببئرها الحازمية بقصبها وطيورها.. بتراثها بمناغاة وهدهدة أطفالها في المهد.. تلك المواويل بأصوات صويحباتها وبلهجتها المحلية.. ف(محمد حبيبي) يهتم بهذا الجانب، وأذكر أنه خلد ذلك في أحد قصائده باستخدام طمطمانية حمير بالإبدال في (أل) التعريف ب (أم) وهو توظيف وتأكيد للغة من لغات العرب وإعادة استعمالها بتجديدها ونفض الغبار عنها في أذهان المتلقين الآخرين لا عند مستخدميها.
لو خرجنا من تجربة (محمد حبيبي) في أمسيته بصخب لكفانا.. ذلك الصخب الذي كسر به تقليدية الأمسيات الشعرية بمزاوجة الفنون الشعرية والصورة الثابتة والمتحركة والموسيقى.. ول(محمد حبيبي) شرف التجريب بهذه المزاوجة مبكراً فشروعه بهذا المشروع أتى مبكراً جداً قبل 10 سنوات.
وتطورت التجربة بمشروعه الثاني حيث جعل الصورة قصيدة متحركة استفز بها فكر المشاهد بحداثة التجربة ونموها الطبيعي بالاعتماد على المرئي وثقافة الصورة.. تلك الثقافة التي من واجب المبدع أن يمارسها للترويج لفنه تماماً كممارسة شعراء الجاهلية لذات الترويج بالإنشاد في الأسواق كأعظم وسيلة إعلامية في ذاك الزمان.. فما مارسه (محمد حبيبي) هو بث الثقافة بروح العصر.. وثقافة الصورة هي السائدة والواجب ممارستها.. من خلال وسائل الإعلام المرئي... فقدم الشاعر عينات جاهزة - لو طورت بفعل المختصين - لأصبحت جديرة للعرض الفضائي.. وبها كثير من المحفزات البصرية المحرضة لمشاهدة واعية وارتقاء بفكر المتلقي، فهي مشاريع جاهزة للعرض، وتلك المشاريع التي نجري خلفها لم تكن بدعة إطلاقاً، فهي مجربة وناجحة فمن تسجيلات عمر أبو ريشة في أحد برامجه عرض لشعره بتجريب مصاحب لصورة وتعبير لغوي عبر لوحات فنية عن عنترة، وترجمة مباشرة بموسيقى ورقصة تعبيرية.
فأين ذهب ذلك التجريب ونجاحه؟ هل الثقافة والرقي الفكري أصبح منبوذاً في هذا الوقت؟ أم هو تقصير المثقفين والأدباء بترجمة إبداعهم للغة العصر؟ تساؤلات لن يجبها إلا رواج هذه التجربة وغيرها وخوض المثقفين والأدباء للغة العصر بكل معانيها وحروفها.
وأعود للناي ذلك القديم الحديث فهو توافق لما قدمه (محمد حبيبي) لملحمته التاريخية، فالناي ابن القرية الرخيص الغالي لا يكلف صاحبه سوى صنعه بيديه إن أراد الأمر ذلك.. وهو أثير عند صاحبه لهذا الأمر، به من الشجن ما لا يستطيع أحد وصفه، فالناي المنعوت بالحزن فلا يطلق الناي إلا وأردفه الحزين كلزمة لا تفارقه، والناي ذلك المجتث من أرض القرية من ترابها وطينها يؤرقه الحنين فيبكي ويخرج نشيجه يشجي السامع، و (محمد حبيبي) المغترب عن قريته والعائد إليها يجد توأمة بينه وبين الناي يبث أحدهما الآخر، ووجد بالناي وزفيره مخلصاً للواعج صدره فزفير الناي مهرب للواعج الصدر، وطريقة لإخراج حرقات الفؤاد ولوعاته.
هل ستكون تجربة (محمد حبيبي) مكان الغواية التي ينطلق منها التجريب والتجديف نحو أفق رحب؟ فالمتطلع لتجربتي (محمد حبيبي) الأولى والثانية يجد نمواً حقيقياً طبيعياً على شتى الأصعدة (اللغوية، التصويرية، الحرفية، الفكرية، الغنائية بكسرها...)، وإن طالت التساؤلات ما المحفز للآخر (الصورة أم القصيدة) ؟ فأخيراً يثبت (محمد حبيبي) بآخر أعماله أن الفكرة هي المحفز لصنع كليهما.. ويبقى عقل الشاعر الواعي صانع كل جديد.. حتى الصورة المصاحبة لعمله التاريخي لم تكن ترجمة حرفية للأبيات، وإن كانت كذلك فما هي إلى طعم قدمه الشاعر لصنع الصورة الواردة في ذهن السامع فور سماعه للأبيات لكي يلقي عن كاهل المتلقي هذا العبء ويشغله بأمرين الركض خلف الحرف والصورة.. وهذا ما حدث.