كان منهمكاً يكتب، وفجأة انتشر ظلال كسحابة سوداء متحركة على الورقة.. توقف عن الكتابة في منتصف السطر.. حدق فرأى شيئاً عجيباً على الورقة، ظلاً لجسم أسطوري.. وهو في غمرة الكتابة نسي أن الورقة ورقة، وخيل إليه أنها صحراء مترامية الأطراف، وأن جسده تجسد في ريشة قلمه، وأن هذا الظل لهذا الجسم الأسطوري سحابة تغطيه وتحاصره وتكتمه.. فرفع رأسه كمن يرفعها إلى السماء، حدق أولاً في المصباح القريب الذي يكتب في ضوئه ثم رأى جسداً أسود جامداً كالحاً يفصل بين جزء من الورقة وبعض ضوء المصباح فترك هذا الكسوف المخيف على الورقة.. خنفساء ضخمة.. خيل له أنها من خنافس الأمم البائدة، وهي تخرج إليه الآن من أنقاض التاريخ.. وتعجب من أين فعلاً جاءت هذه الخنفساء؛ فالمكان نظيف، وليس مكان خنافس، فكيف تسللت إلى مكتبه..؟
نسي التساؤلات وعاد يركز على جسد الخنفساء، رآه مصمماً مدمجاً بطريقة متقنة، صار يتابع ذلك الاحديداب في الظهر، وهذا الشريط من النتوء الذي يقسم الجسم إلى جزءين حتى الرقبة، والحقيقة أنه لا رقبة هناك وإنما الجسد يأخذ بُعداً تكورياً ممتداً قليلاً حيث نشب فيه الرأس، رأس صغير ثابت كأنه رأس برغي مدور مركب في الجسد.. نبت فوق الرأس قرنان قصيران مشلولان ليس بهما أية حساسية، هكذا بدا له..
هذا الجسد ركب على أربعة قوائم طويلة شاطحة في طولها نسبة إلى حجمه فبدت غير متناسقة معه كما لو أن دبابة ضخمة رفعت فوق أربعة مسامير من الصلب..
الخنفساء واقفة في عناد، وتحدٍ أو في بلادة وكسل، وخمول، لا يدري..!!
حتى ليخيل إليه أن هذا الجسد دمية ليس بها روح ولا حياة..
مد أصبعه رويداً رويداً نحو الجسد المتشنج الواقف بعناد وصلابة، أو بغباء وهمود.. وكاد الأصبع يلامس ظهر الخنفساء ولكنها لم تتحرك..
تذكر أنه سمع جدته في طفولته تقول: إذا رأيتم الخنفساء فانفخوها تذهب عنكم، نفخها فتحركت بضع خطوات، واستغرب من الجسد المتحجر أن يتزحزح من فوق هذه الأرجل النحيلة بنفخة، توقفت، ثم عاد ينفخ.. فتحركت قليلاً ثم توقفت، وصار ينفخ وهي تتحرك ثم تتوقف.. وظلت حركتها محصورة في حدود الورقة، فتتقدم، وتتأخر، وتتزحزح يميناً وشمالاً وفقاً للمساحة المحكومة بحدود الورقة، وأعجبته لعبة النفخ، والحركة.. ثم أخذته الحيرة فلماذا لا تتحرك عندما يقرب أصبعه منها، وتتحرك لملامسة الهواء..؟ وقال ربما أنها عمياء، فقرب القلم منها ثم غمز ظهرها بريشته قليلاً فلم تتحرك، غمزها مرة أخرى بشكل أقوى فلم تتحرك، وأخيراً دفعها فتمايلت ثم عادت إلى وضعها مرة أخرى، فاحتار في هذا الكائن العجيب الذي يحذر الهواء ولا يحذر الوخز بالأجساد الصلبة.. والحقيقة أنه حاول استعادة كل ثقافته، ومعلوماته عن تلك الظواهر الغريبة فلم يصل إلى شيء، فضاق صدره جداً بجهله، وضاق صدره بهذه الحالة، فعاد إلى النفخ، صار ينفخ وهي تتحرك، وتسرع في الحركة، فإذا توقف عادت إلى صمودها.. ثم مل من هذا الضيف الثقيل الجامد اللئيم وأراد التخلص منه..
حمل الخنفساء بالقلم وأراد قذفها فسقطت على الورقة، سقطت على ظهرها وأخذت تتحرك وهي مستلقية وتدور بشكل متتابع، وشاهد قوائمها تعوم في الفراغ باضطراب آلي، وشاهدها وهي تحاول أن تعيد توازنها فتنقلب إلى وضعها الطبيعي ولكنها لم تستطع، وتركها وهي تحاول وتفشل.. تفشل وتحاول، وتحرك قوائمها.. ثم توقفت قليلاً كأنما بدا عليها التعب، ثم عاودت الكَرّة مرة بعد مرة ففشلت، وأخيراً استسلمت وظلت جامدة وقوائمها ممدودة شاخصة في الفراغ وكأنها ماتت وجمدت، فخطرت له فكرة النفخ فنفخها، فانقلبت واستتمت واقفة بشكل مفاجئ، ثم ركضت يميناً وشمالاً، وأماماً وخلفاً وكأنها مذعورة، ثم ركضت إلى مركز الورقة ووقفت..
وجد أن الاستمرار في اللعبة مع الخنفساء مسلٍ ولكنه سخيف، فأخذ منديلاً وحملها ليقذفها في الشارع ولكن جسدها تملص من المنديل فسقطت غير بعيد من المكتب فانطلقت مسرعة نحو جدار الغرفة ولاذت وراء خشبة الكرسي والفرش فتركها.. وشرع في الكتابة من حيث بدأ.. ولكن منظر الخنفساء وسلوكها لا يزال يشغل ذهنه.. لا تزال تتحرك في مخيلته.. فاضطرب في كتابته وصار يتوقف ما بين الجمل، يشخط ويعيد الكتابة مرة أخرى، أدرك أن الخنفساء عرقلت ذهنه عن الكتابة، بل ظهرت له أفكار، وصور خنفسائية، تتحرك في ذهنه على شكل صور وعلى شكل أسئلة، فراح يحاول أن يستعرض أدق الصور في ذهنه.. متى رأى أول خنفساء، ومتى آخر مرة رآها، ثم راح يتذكر أنها تتواجد دائماً في الجحور المهملة وتظهر من تحت الأنقاض، وتذكر أن الخنافس ثقيلة، ولئيمة، وملحاحة، ثم تساءل كيف تأكل، وكيف تتغذى، وما الذي يأكلها..؟ ما هو عدو الخنافس من الكائنات..؟ ثم تذكر أنهم يقولون إنها سامة، وأن البقرة إذا أكلتها مع العلف تموت فوراً.. وأنها صديقة للعقرب، فإذا رأيتها فعليك أن تأخذ حذرك من العقرب وتذكر أنها تشترك معها في القبح وتشاركها في سكنى الجحور.
ثم تذكر أن الخنفساء عادة لا تتحرك إلا في الظلام.. فلماذا جاءت إذن على ورقته البيضاء وتحت الضوء..؟
وخطر بباله أن يذهب إلى الموسوعة وأن يقرأ عن الخنافس، وعن سلوكها، فهي في نظره بعد الآن جديرة بالدراسة والبحث. شغلته هذه الأفكار، وهذه الأسئلة حول هذا الزائر اللئيم الذي أتاه على غرة فعرقل كتابته ونكد تفكيره، وفجأة تذكر صديقاً قديماً متخصصاً في دراسة الحشرات فهمّ فوراً أن يتصل به ويلقي عليه الكثير من الأسئلة حول الخنفساء، ثم أدرك أنه في ساعة متأخرة من الليل، فقرر تأجيل الأمر إلى صباح الغد، وبعد أن هدأت ذاكرته قليلاً، وبينما هو يحاول إعادة ترتيب ذهنيته الكتابية فاجأه شيء.. ركز جيداً على الورقة.. ظهرت الظلالات والسحابة السوداء المتحركة المرتعشة: تجمد عن التفكير والحركة قليلاً ثم مد بصره في دهشة واختلاس فوجد الزائر الثقيل واقفاً كمخبر.
* مهداة للأخت القاصة شريفة الشملان