الشيخ العلامة عبدالقدوس الأنصاري عَلَم شامخ من أعلامنا الثقافية، ورمز بارز من رموز نهضتنا العلمية والفكرية، ولقد تعرفت على الشيخ عبدالقدوس الأنصاري - رحمه الله - في جدة بمطابع الأصفهاني 1383هـ، وكنت أعمل مديراً لإدارة الكتب والمقررات المدرسية في وزارة المعارف، وكنت أشرف على طباعة المقررات المدرسية التي تقوم مطابع الأصفهاني بطباعتها في جدة، وكان - رحمه الله - يحضر إلى المطابع للإشراف على طباعة مجلة المنهل الغراء، فكنا نلتقي في رحاب المطابع، وكان الحديث معه جذاباً ومفيداً في قضايا اللغة والتاريخ والتراث، وتعرفت بواسطته على مجموعة من الأدباء من أمثال محمد حسين زيدان، وكان وقتها رئيسا لتحرير البلاد، وكذلك الأستاذ أحمد عطار وطاهر زمخشري والسباعي، ومجموعة من الأدباء والأسماء اللامعة.. ومنذ ذلك التاريخ كنت وثيق الصلة بالشيخ عبدالقدوس وبمجلة المنهل الغراء، وشجعني على الكتابة فيها، وبقيت جسور التواصل معه ومع مجلته الغراء التي أفسح لي المجال في نشر مقالاتي بها. ولما قضى - رحمه الله - نحبه وخلفه ابنه الأستاذ بنيه - رحمه الله - قويت الصلة معه، ودام التواصل مع المجلة، وبعد أن أخذ الراية الابن الحفيد الأستاذ زهير استمر التواصل والنشر والاحتفاظ بالتقدير والمحبة لهذه الأسرة الكريمة ولمجلة المنهل الغراء، وتقدير جهودها المتميزة في حقل الآداب والثقافة. إن الشيخ عبدالقدوس رائد من رواد الأدب والإبداع والنهضة في بلادنا، ومن يقرأ كتبه ودراساته النقدية ومعاركه الأدبية وكتاباته الفكرية يدرك خدمته للتاريخ والتراث والآداب، وكان له دور بارز فيها.. ولقد أصبح عَلَما من أعلام الأدب وموضوعا لكل من يكتب عن تاريخ بلادنا وآدابها وآثارها والتعرف على الحركة الثقافية في بلادنا، حيث إن له باعا طويلا في خدمة المعرفة والتاريخ والثقافة والبحث العلمي من خلال ما أصدره من كتب وما أنجزه من بحوث وإسهامات فكرية ومن جهود بذلها في خدمة بلاده.. وما زالت مجلة المنهل حافلة بالثقافة والمعارف على مدى سبعين سنة، وتتسع قاعدة قرائها عاماً بعد آخر.
وسيسجل لها التاريخ الأدبي أنها ساهمت في نهضة أدبنا، وأنها كانت مصباحا مضيئا على الدرب، وأصبحت بحق ملتقى للمثقفين وناديا لأرباب القلم والفكر والإبداع الأدبي والحوار المتواصل وتأصيل الفكر الأدبي السليم، فهي ينبوع آداب تمتعنا بذخائر نفيسة مفيدة. ولقد كان الشيخ عبدالقدوس - رحمه الله - من العلماء الأفذاذ بما أسداه إلى الثقافة العربية المعاصرة، فكان من أوائل المشتغلين بعلم الآثار في بلادنا، وكتبه رائدة في التاريخ وبحوثه، وكذلك مقالاته في اللغة والأدب.
لقد تجسدت لي هذه المزايا وما تعكسه من فضائل واعتبارات وأنا أتابع أعداد المجلة منذ صدورها في عام 1355هـ حيث ألفيتها قد استقطبت عدداً كبيراً من الأدباء والكُتاب من داخل المملكة وخارجها، والتزمت بموقف أدبي متميز ورسالة ذات هدف نبيل ومنهج موضوعي واحترام لحرية الفكر والتعبير.. ولعلني لا أعدو الصواب إذا قلت إن هذا الموقف مَعْلَم بارز لرسالة الفكر تحمل المجلة لواءه وترفع مشاعله.
إن من يتصفح محتويات أعداد المجلة منذ ظهورها حتى اليوم لا يستطيع إلا أن يكبر فيها الدور الرائد والممارسة الأدبية والموقف الأدبي الموضوعي مع الحفاظ على الأصالة والصدق والذوق الأدبي السليم ومواكبة الأحداث، وتيارات العصر الفكرية والأدبية، دون فقدان الهوية والشخصية.
مع الاهتمام بالأدب السعودي وتشجيع أصحاب الأقلام والمواهب كان هناك محور مهام تميزت به المجلة في المشهد الثقافي، فظلت خير قوامة على أدبنا ولغتنا العربية الخالدة.
ولقد أسهمت المجلة من جانب آخر في إثراء الحركة الأدبية ورعاية الأدب وتشجيع الحوار الإيجابي والنقد الأدبي، وإقامة الصلات والجسور الثقافية بين الأدباء.. ولهذه السمات والاهتمامات بُعد وأثر في الازدهار الثقافي وقضايا الفكر، كما يبرز اهتمامها بالتراث والحرص على إبرازه بصورة مشرقة وجعله منطلقاً للاستفادة منه والتعريف بجوانب الحضارة العربية الإسلامية ومواكبة العلم والمعرفة.
ونتطلع إلى المزيد من مواصلتها لمسيرتها الثقافية وتأديتها لرسالتها الفكرية.. وأن يكون لها الدور الريادي إسهاما منها في التعريف بأدبنا وقضايا مجتمعنا وتطلعاته، لتكون مرآة تنعكس عليها مختلف التيارات الأدبية والفكرية الأصيلة، وإبراز النهضة الأدبية والعلمية والإنتاج الأدبي، فأدبنا جزء من واقعنا يساير ركب الحياة.
فالأدب كائن متفاعل - كما يقال - يحرك المشاعر ويصقل المواهب، بل هو نبض الأمة، يحيا بحياتها ويزدهر بازدهارها، فالأدب في حقيقته هو الصورة الحية للأمة، يحدد ملامح شخصيتها وقوام وجودها وتاج نهضتها وصدى صوتها، فما أحوجنا اليوم إلى أعمال أدبية جيدة على المستوى الفكري والفني والموضوعي يتجلى فيها الواقع والرؤية الصادقة والإخلاص العميق وما ذلك على همة القائمين عليها ببعيد، للتعريف بالوجه الحضاري لحياتنا وأدبنا وما نتطلع إليه من مستقبل أدبي مجيد، وفكر مرموق؛ فالفكر هو أساس القوة؛ فإن الأمم التي تتباهى اليوم بالقوة المادية وحدها إنما قامت فيها هذه القوة على دعائم الفكر والثقافة الذي يصنع جوهر الحضارات.
وهكذا نأمل أن تظل (المنهل) ميدانا للثقافة الرفيعة والمعرفة الراقية على الدوام للمثقفين والقراء.. فعلى مدى سبعين عاماً شارك فيها نخبة من العلماء والأدباء والمؤرخين فلم يضنوا عليها بعلمهم وفكرهم في جميع فنون المعرفة. واللهَ نسأل لها المزيد من العطاء والتوفيق لتثابر في خدمة هذا الوطن العزيز عن طريق نشر رسالة العلم والأدب والفكر على أرقى مستوى من العطاء والإثراء وكل طريف وجديد.