إن الإخلاص للحقيقة يقتضي الاعتراف بأن كثيرين من المثقفين لا يخطؤون، أو يقصرون في قراءة الواقع (لعجز عاطفي أو لممالأة سلطة حاكمة) وحسب، بل يتلاعبون بالعواطف والرغبات، ويزيفون الحقائق ومنطق الأحداث واتجاهات المجتمع، إما لبواعث إيديولوجية التزموا بها، أو لركوب موجة تجتاح الرأي العام في لحظة تاريخية معينة، أو للإساءة المتعمدة لفكر، أو تيار، أوعقيدة ما، أو تأييداً لإجراءات تقوم بها سلطة مهيمنة.
وقد يقوم قسم من المثقفين بتغيير مواقفهم وكتاباتهم و(تنظيراتهم) ليس تحت تأثير الدوافع التي أشرنا إليها، وإنما طلباً للمال والارتزاق والجاه وبحبوحة العيش، فيبتدعون طرائق وأساليب وحيلاً لا حصر لها من أجل اغتراف أكبر ما يمكن من مغانم و(جوائز) وأوسمة وألقاب وأضواء. ولهذا تجد هذا الصنف من بائعي الكلام و(تجار الشنطة (الثقافية) في كل ندوة عامرة بالهدايا و(المغلفات) المحشوة بالمال، وفي طليعة (المناضلين) للوصول إلى هذا الأمير أو ذاك الحاكم. أما (معلقاتهم) الشعرية أو (أبحاثهم الفكرية) أو (تحليلاتهم) التقريظية والتبريرية الزائفة فهي جاهزة تحت الطلب دائماً.. ولا يهم أنها كاذبة، أولا أحد يصدق مضامينها، أو أنها لا تمتّ بصلة للحقيقة ولمنطق الأشياء، إذ إن المطلوب (اكتشاف) ما يروق للقائمين على الأمور، ومسايرة الموجة، والوصول إلى الكنز. ومثل هؤلاء المتاجرين بالكلمة عرفتهم المجتمعات كلها، وعرفه التاريخ في مراحله المختلفة.. ومجتمعنا العربي ليس استثناء من هذه الظاهرة، إن لم يكن في مقدمة المجتمعات التي عانت وتعاني من انتشارها، لأسباب وعوامل يطول بحثها، وتحتاج إلى وقفات ومقاربات أخرى.
وقد كتب عديدون في نقد هذه الظاهرة الاجتماعية - السياسية، التي تقتضي التحليل والدراسة العميقة نظراً للدور المتميز الممنوح للفئات المثقفة في المجتمع العربي؛ حيث تكشفت حقيقة الصورة التي يجهد الكثير من المثقفين في إعطائها عن أنفسهم.. صورة المناضلين المتصدين دوماً وأبداً للسلطة القائمة (وهو ما دعا سماح إدريس إلى طرح التساؤل التالي: (فلماذا الحديث إذا عن فريقين منفصلين، فريق الحكام وفريق المثقفين، وقد أثبتا تقاطعهما عبر جميع الأزمنة والأمكنة؟) سماح إدريس، المثقف العربي والسلطة: بحث في رواية التجربة الناصرية، بيروت 1992، ص 279).
ومن ناحيته، يرى الدكتور عبد الله العروي أن أسوأ ما في الأمر يتمثل هنا في تمكن هذه الفئة من القيام بدور القيادة في الميدان السياسي والثقافي (د. عبد الله العروي، أزمة المثقفين العرب تقليدية أم تاريخانية؟) إذ إنها عندما تملك النفوذ السياسي أو على الأقل الأرجحية الثقافية، فإنها تفرض مميزاتها من حيث هي قيّم على المجتمع في جملته.. وهي سرعان ما تصبح مبتورة عن سائر السكان، وبذلك حوّلت الثقافة على هذا النحو الذرائعي إلى وسيلة، أداة إيديولوجية، وكقيمة لا يمكن المساس بها.
إن الخروج من خرافة الاعتقاد بطهرانية ونقاء المثقفين يشكل شرطاً مهماً لوعي حقيقة الفجوة الواسعة أو النسبية بين تنظيراتهم وتحليلاتهم وشعاراتهم من جهة، وبين ممارساتهم اليومية في جامعاتهم، وفي المؤسسات وفي الحلقات الخاصة، وعند أصحاب الشأن والسلطة والنفوذ من جهة أخرى.
وبغية تأكيد (الحضور الكامل والدائم) يسعى قسم كبير من المثقفين إلى الاندماج في الدورة الاستهلاكية العامة للمجتمع، ولعب دور المبشّر والمروّج والمسوّق لأفكار وقيم وتوجهات لا أصالة لها، وليست مستمدة من تاريخ المجتمع وتراثه وطبيعة شعبه. والتحول إلى وسيط أو وكيل دائم لوعود طوباوية، لا يمكن تحققها من خلال جملة الشروط والعناصر القائمة والمتحكمة في مسيرة المجتمع وصيرورته التاريخية وقدراته الحقيقية وآفاقه المستقبلية الواقعية.
ويصب في هذا الاتجاه تلك المجموعة التي امتهنت (التنظير) ولعب دور (الخبراء) العرفين بكل أمر، الحاضرين في الندوات والملتقيات والفضائيات ووسائل الإعلام المحلية والعالمية، وأولئك الذين (حققوا وجودهم) خارج مجتمعاتهم عبر الترويج لنمط الحياة الغربية، وأساليب الحكم والأفكار التي تضعها معاهد الأبحاث والمراكز الاستراتيجية الدولية المعروفة.
وإن نظرة متفحصة لهذه المشاركة السلبية أو الشكلية لفئات من المثقفين تكشف (كما يؤكد الباحث الاجتماعي عبد الوهاب حفيظ) كيف أن خطابه السياسي المشتعل وشعاراتها لا تؤكد أبداً وجود وعي سياسي فعلي في المجتمع، بالضبط مثلما أن تكديس الأسلحة والدبابات وبناء المدارس والجامعات لم يعنِ في أرض الواقع انتصاراً محققاً على العدو أو نجاحاً باهراً في نشر العلم وصنع التقنيات المتطورة.
ومن المؤسف أن المثقف العربي (كقوة فاعلة ممكنة) ما زال يتحرك خارج دائرة التأثير في المجتمع فسواء اختار الخروج بشكل رمزي، عبر تنكره الكامل لشرعية النظام القائم أو بشكل جغرافي عبر قرار الهجرة والعيش في الغرب، فإن واقع الخروج وآثاره واحدة، ما دام لا يعني في المنظور العملي والنهائي سوى الانعزال عن المجتمع وضعف الوجود المتحقق سياسياً، واجتماعياً، وواقعياً.
وبالمقابل تغصّ الساحة الثقافية العربية بالأسماء الأدبية والألقاب (العلمية) الرنانة الطنانة، التي بدأت تنافس (نجوم) الغناء، والفن، والرياضة. وهي في حالة تزايد مستمر من حيث الكمّ.. وهذه الفئة من (المثقفين) هي الأكثر عدداً ونفوذا ًوظهوراً في الفضائيات ووسائل الإعلام المختلفة. كما أنها الأضعف عدّة وعتاداً في مجالات العلم والثقافة والأدب والفكر.
ومن المؤسف أنّ البضاعة الفاسدة تطرد البضاعة الجيدة في هذا الميدان أيضاً.. في حين أن المثقفين النقديين الأكثر وعياً، والأعمق فكراً، والأصدق سلوكاً وممارسة، تتزايد عزلتهم يوماً بعد يوم، من هنا، نفهم الآليات والبواعث التي تدفع عدداً كبيراً من المثقفين العرب إلى الهجرة والبطالة، والاعتزال والصمت المطبق، ولاسيما أن المثقف العربي غالباً ما يجد نفسه مكبلاً عاجزاً عن الحركة ضمن أوضاع سياسية - اجتماعية معروفة. وتكون النتيجة - في أغلب الأحيان - عزلة المثقفين عن المشهد الاجتماعي، وابتعادهم (راضين أو مكرهين) عن انخراط في العمل السياسي الرسمي العام. وبذلك، لا يبقى في المجتمع سوى مثقفين (معتمدين)، أو أنصاف وأشباه مثقفين لديهم الاستعداد التام للتكيف، والظهور بمظهر (المنظّرين) والمفكرين العظام، وأصحاب (المشروعات) و(الرؤى) الفلسفية الكبرى. إلا أنهم ظلّوا في الواقع عاجزين، من خلال تهويماتهم الذهنية الخيالية، عن التواصل الحقيقي والفعّال مع رموز المجتمع المدني، والمؤسسات الأهلية والشرعية.
وما يزيد الطين بلّة، أن أنظمة كثيرة أعطت لفئة من المثقفين وظيفة تنفيذية وتطبيقية لا صلة لها بالقرار السياسي، ولا بالاطلاع على ما يُرسم خلف الأبواب الموصدة من اتجاهات، وبرامج، ومخططات تتصل بمصائر الناس، ومستقبل البلاد والعباد.
ومن هنا يرى عدد من الباحثين أن ما أشرنا إليه من عوامل مؤثرة ولَّد الشعور بالإحباط لدى الفئة المذكورة، فبرزت مفرزاته من خلال ما يسمى (الوعي البائس) أو (الزائف). وقد أدى هذا الإحباط إلى (العزلة وليس إلى المشاركة، إلى الغياب المتواصل وليس إلى الحضور، إلى السلبية وقبول الأمر الواقع وليس إلى المبادرة والإسهام الإيجابي في مصير المجتمع والناس).
ومن نافلة القول - وهو أمر مؤسف حقاً - إن معظم الأنظمة لا تريد للمثقف أن يتجاوز دور الأداة المنفذة، أو (كاتب السلطان)، أو (المسوّق المسوّغ) لكل ما يصدر عنها من إجراءات، وترتيبات، وأوامر. وما يزيد الأمور تعقيداً، أن جزءاً من المثقفين (سواء وعى ذلك أو لم يعِ) اندمج تمتماً بدور الدكتاتور والسيد المطاع.. وأعان الله من وقع في تراتبية الهرم الوظيفي أو السياسي تحت سلطة ذلك المثقف الذي وجد نفسه فجأًة في موقع القرار أو التحكم بالناس.
وبما أن الفئة التي تقمصت دور المقرر الذي يأمر فيُطاع، لا تملك أساساً من المحصول الفكري والجماهيري شيئاً مذكوراً فقد صار من المحتم عليها أن تتحول إلى البيروقراطية الملحقة بالسلطة، دون رؤية فكرية أو فلسفة واضحة تجاه المجتمع والدولة والمستقبل. والنتيجة، أن هذا الصنف من المثقفين (الذين قفزوا إلى مواقع السلطة والقرار)، تتضخم لديهم الآنا النرجسية، والوقوع تحت أوهام الامتلاء الذاتي، والشعور الزائف بامتلاك الحقيقة الكاملة، تبعاً لامتلاك أدوات السلطة وأجهزتها المعروفة.
وما على هؤلاء سوى تهميش الآخرين، ومحاولة إشعارهم بالدونية والصَّغار لأن في ذلك نوعاً من التوازن النفسي لروح قلقة، ملأى بالتناقضات، والضعف، والخوف من المجهول والغد.
لذلك، فإنه لا غرابة من اختفاء مزايا وسمات المثقف الحقيقي (ما قبل المنصب) لمصلحة بروز وتضخيم عناصر اللا شعور في شخصية متناقضة.. فتقفز إلى الواجهة الممارسات العنيفة، والبطش، وإلحاق أكبر الأذى بزملاء المهنة السابقين، أو بأولئك الذين يمكن أن يشكلوا في مرحلة لاحقة البدلاء المحتملين والمتوقعين.
ولعل هذا يشير إلى رغبة دفينة في محاكاة الدكتاتوريين الكبار، وصانعي الأحداث العالمية المجلجلة، الذين حققوا حضوراً قوياً (مأساوياً في معظم الأحيان)، حتى ولو جاء من خلال تدمير الحضارة، ومحق منجزاتها العظيمة وإزهاق أرواح ملايين البشر. ومن هنا يمكن مقاربة وفهم أسباب تحوّل عدد من المثقفين إلى دور الجلادين والمهووسين بجنون العظمة والمجد الشخصي الزائل والزائف.
والواقع، فإننا نجد أنفسنا في حالات كثيرة أمام ما يسمى (المثقف المأزوم)، حيث إن ادعاء الثقافة وامتلاك المعرفة والحقيقة، ومحاولة الاندماج في (الصفوة) الحاكمة إنما يكون في الأغلب على حساب عدد آخر من المثقفين، عبر تهميشهم، أو التحريض عليهم، أو دفعهم إلى الصدام أو الهجرة أو الصمت والاستكانة... وبذلك، يصبح المثقفون وجهاً من وجوه الأزمة والفراغ الوجداني والقيمي. وما نراه من انفصال بين المثقفين والناس ليس إلا نتيجة لوهم التفوق الذي يتراكم في أذهان ونفسيات عدد من المثقفين، يعززه جملة من المنافقين المخادعين المحيطين، الذين يشكلون البطانة والجدار المتين المرتفع في وجه الحقائق ونبض المجتمع.
إن إغراء السلطة والتسلط أخطر أشكال الإغراء الذي يتعرض له المثقفون.. وقد برهن علم النفس والوقائع العملية من خلال أمثلة كثيرة، أن حب السلطة، والاستمتاع بإعطاء الأوامر، وممارسة القهر، والإسكات للمرؤوسين تشكّل لذّة عظيمة لصاحبها، ودافعاً قوياً للتشبّث بالمنصب، مهما كان الثمن والنتائج.. وبذلك يتحول كثيرون (وأغلبيتهم من المثقفين) إلى أدوات باطشة، وفي الوقت ذاته، إلى عبيد للمنصب، بعد أن يذوقوا طعم الأمر والنهي.
ولكن لكل شيء أو موقف أو قرار ثمنهُ طبعاً، فإذا أصبح المثقف عبداً للمنصب، والشهرة، والوجاهة، فسيصحو يوماً ما (غالباً بعد طول مكث) ليجد نفسه بلا منصب، ولا سلطة ولا حشد من الأصحاب والخلان، ولا بطانة محترفين لأنواع النفاق والتدجيل، وقد خسر شرفه، وكرامته، ومحيطه الاجتماعي.. وهيهات أن ينفع الندم بعد فوات الآوان!!.
............................................انتهت