من النادر جداً أن يصل عدد طبعات مجموعة قصصية إلى ثلاث طبعات أو أربع. ولكن مجاميع صديقتنا الكاتبة الكبيرة غادة السمان تجاوزت هذا الرقم بكثير. فالأمر يدل على أنّ قصصها ما زالت مقروءة، وأنّ هناك من يبحث عنها ليدرسها أكاديمياً أو يترجمها أو يتمتّع بقراءتها.
إنّ مجموعتها البكر (عيناك قدري) مثلاً قد وصل عدد طبعاتها إلى اثنتي عشرة طبعة. ومجموعتها الثانية (لا بحر في بيروت) إلى تسع طبعات، ومجموعتها الثالثة (ليل الغرباء) بين أيدينا طبعتها العاشرة الصادرة حديثاً من منشورات غادة السمان ببيروت.
عندما تذكر غادة السمان فإنّما تذكر للدور الذي قامت به في الكتابة السردّية الستّينية التي كانت ثورة على المألوف القصصي العربي وخروجاً عليه وعلى ما حوى من تقنيات وقناعات لدى معظم النقّاد والقراء.
وكانت غادة السمان رائدة جريئة في كسر المحظورات الكتابية التي حالت دون تقدُّم كتابات المرأة وأعطت شارة التمرُّد عليها، وقد عانت كثيراً نتيجة لهذا. وعندما نقرأ اليوم نصوصاً متفتّحة ومنفتحة لكاتبات عربيات جديرات، لا ننسى أنّ هناك كاتبات عبّدن لهن طريق الإبداع فوجدنه جاهزاً مهيأً للسير وعلى رأسهن غادة السمان.
بدت غادة السمان في قمة طغيان الأيديولوجيا على الكتابة العربية. وكان النقّاد والدارسون يتعاملون مع النصوص الإبداعية العربية بمسطرة الأيديولوجيا فإن تمدّدت خارجها حقّ عليها الهجوم.
لم تهادن غادة هؤلاء لذا أثارت استنكارهم ونالت غضبهم فهاجموها وهاجموا كتاباتها للنَّيل منها، ولكنهم لم يفلحوا. وكانت مصرّة على اختياراتها ومفاهيمها متسلّحة بثقافة عالية (غادة السمان أستاذة جامعية لمن لا يعرف هذا). وبمتابعات لمنجز الثقافة العالمية وعشق للرحيل قادها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب.
ومع غادة قرأنا لأسماء سورية بشكل خاص ولبنانية وكلهم متمردون على السائد مع تميُّز أحدهم عن الآخر أمثال ياسين رفاعية، حيدر حيدر، هاني الراهب، عادل أبوشنب، زكريا تامر، خيري الذهبي وغيرهم.
ومن يتابع مرحلة الستينات الأكثر ثراءً في الإضافة والتجاوز، سيجد أنّها كانت فترة حاسمة حتى في السياسة وما جرى من متغيرات وتبدُّلات، ولم يعد بمقدور سطوة الأيديولوجيا احتواء الكتّاب الجادين الذين خرجوا عليها، وتركوها لبعض المنتفعين منها، وما تحمل من مكاسب شخصية وليست إبداعية.
إنّ ثورة الستينات وجدت من يقف معها سواء في سوريا أو لبنان أو مصر (تجمع مجلة غاليري 68)، وفي العراق (جريدة الأنباء الجديدة الأسبوعية ومجلة الكلمة لاحقاً)، ولا ننسى دور مجلة (الآداب) اللبنانية في احتفائها بهذه النصوص رغم التزام المجلة بخطها الناصري سياسياً، ولكنه التزام متفتّح بفضل وعي صاحبها د. سهيل إدريس.
ومع غادة السمان تحديداً وقف عدد من أعلام الأدب العربي وقتها. فالكاتب المصري الراحل يوسف إدريس الذي يعدُّ من أبرز مجدِّدي القصة القصيرة العربية قال عنها: (غادة السمان ثورة في الأدب النسائي وتتمتع بفصاحة عربية منقطعة النظير).
كما قال عنها الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني: (تتفوّق غادة السمان على نفسها وعلى الكثيرات: ذلك أنّها لم تكتف بأن تكون كاتبة نسائية، ولكنها استخدمت مأزق المرأة العربية الذي تستشعره كأنثى وتعيشه على ذلك (الجسر) المرير - الجسر بين عالمين وعصرين. ومنطق (جيل الجسر) الذي تستشعره غادة بوضوح صاعق لتعبِّر عنه ككاتبة ممتازة).
وعن (ليل الغرباء) المجموعة التي انطلقنا منها في هذا الحديث يقول المفكِّر حمود أمين العالم: (ليل الغرباء عمل أدبي عزيز عن قضية قومية عزيزة هي فلسطين. ولكنه في الحقيقة يمتد ليصبح عملاً أدبياً عن القضية العربية كلها، يرتعش بالمحبة الصافية الصادقة لها، والوعي العميق بأبعادها الأصيلة).
احتفظت غادة وحافظت على الإهداء الذي ورد مع الطبعة الأولى التي تعود لعام 1966 (وهو على سبيل المثال العام الذي صدرت فيه أول مجموعة لكاتب من جيل الستينات العراقي هي (السيف والسفينة) لكاتب هذه السطور).
والإهداء بقدر ما هو محدّد فإنّه يذهب بعيداً ويقول: (إليك، يا من جعلتني أعي غربتي، لك ولذكرى حكاية لم نعشها).
تحتوي المجموعة على سبع قصص أضافت في خاتمة واحدة منها هامشاً تذكر فيه أسماء اللّغات التي ترجمت لها وهذه الترجمات جلّها للّغات العالمية التي اصطلحنا على تسميتها باللّغات الحيّة.
رافقت القصص تخطيطات ورسومات للفنان اللبناني الراحل فاروق البقيلي وهي الرسوم نفسها التي رافقت الطبعة الأولى منها على حدِّ علمي.