مقدمة الدراسة:
على الساحل الشرقي للبحر الأحمر ولد طفل، سنة 1320 - 1902م، لأب يعمل بحاراً في ميناء جدة، ويحظى بتقدير البحارة، كان يطمح أن يكون ابنه متعلماً، لعدم قناعته بمهنة البحر، فأخذه إلى رجل يعلمه القراءة والكتابة والخط، ولم يتجاوز عمره الخامسة في ذلك الوقت، ومن ثم دفع به إلى مدارس الفلاح بجدة، وكان طالباً نابغاً تعتز المدرسة ومديرها بوجوده من ضمن مجموعة من الشباب الحجازي، الذين لم تقف أحلامهم عند حدود القراءة والكتابة لغرض الوظيفة.
في هذه المدرسة بدأت قريحته الشعرية تتفتق على شكل معارضات، وهذه سمة الإبداع في كل الفنون، (سمة المحاكاة) ولم يتعد سنة الحادية عشرة، وفي هذه المدرسة بدأت معرفته بالشاعر حمزة شحاتة، كأول أديب مثقف، وكان عمر العواد ثلاث عشرة سنة، وكان كل منهما مولعاً بالثقافة والتجديد والمنافسة والتمرد في آن واحد.
كان العواد يكاتب الأدباء في مكة، فجدة ميناء تجاري في ذلك الوقت، ومكة مركز الثقافة ومقر المثقفين في ذلك الزمان، فما أن بلغ السابعة عشرة من العمر حتى قررت الأسرة الذهاب إلى الحج، فصحبها إلى مكة، وكانت شهرته قد سبقته إلى هناك عن طريق المكاتبات إلى أولئك الأدباء، وفي مكة تعرف إلى الثلة المعروفة من الأدباء الذين لم يكن ثمة أدباء سواهم على الإطلاق وهم: (الأستاذ الكبير محمد سرور الصبان، ومحمد سعيد العامودي، ومحمد عمر عرب، وعبد الله فدا، ومحمد بياري، وعبد الوهاب آشي، وأحمد الغزاوي، وأحمد جمال بخاري) وكان هؤلاء يزاولون الأدب والكتابة متعاونين متفاهمين متشاركين في الإنتاج، وهذا هو الرعيل الأول من أدباء الحجاز.
ومن هذه الرحلة بدأت معرفة العواد برائد النهضة الأدبية (محمد سرور صبان) الذي تبناه، كما تبنى غيره من الأدباء الشباب، وكان مشجعاً لهم على المضي في إنشاء أدب حديث بلغة عصرية، فقد كانت اللغة الأدبية قبل ذلك العصر تقليدية تهتم بالزخرف من اللفظ، على حساب المعنى، عند ذلك الرعيل، المتأثر بأساليب أدباء مصر وبالموروث اللغوي في الحجاز، ولعل أول بادرة ظهرت كانت من محمد سرور صبان في كتابه الذي نشره بأقلام الشباب الحجازي، وكان الكتاب عبارة عن أطروحة ألقيت على الأدباء والكتاب من الشباب لتحسين وضع لغة الأدب، ليساير آداب العالم المتقدم، مع الحفاظ على أصول اللغة العربية، ومن هنا، صدرت مقالات العواد في كتابه الأول (خواطر مصرحة) 1926 - 1345 الذي قام بنشره الصبان نفسه تشجيعاً لهذا الشاب وأمثاله، وكان كتاباً نارياً، على حد تعبير الغاضبين منه في ذلك الزمان، فقد وقف مدير مدرسة الفلاح بجدة، الشيخ (حسين مطر) وكان يعتز بطالبه (محمد حسن عواد) إلا أنه خيب ظنه بإصدار هذه المقالات في كتاب خالف فيه ما كان يأمله منه، عندما أصبح مدرساً في المدرسة نفسها، فقال بما معناه، في خطبة في الطلاب بعد صلاة الظهر: (إن محمد حسن عواد كان تاجاً على رأس هذه المدرسة، ولكنه بعد أن أصدر كتاب (خواطر مصرحة) فقد مكانته فيها)، وعندما أهداني المرحوم (محمد علي مغربي) كتابه (أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر الهجري) بتوقيعه، في 14 - 8 - 1404 فرحت به وأخذت في قراءته، وعندما وصلت إلى محمد حسن عواد، ذكرني بأشياء كثيرة كنت نسيت بعضها، وأعاد لي الذاكرة في بعض المتشابهات في الثقافة النمطية، وأستطيع أن أسميه (القهر الثقافي) أو الإرهاب، قبل أن نعرف هذه المفردة في سياقها السياسي والفكري.
كنت طالباً في المرحلة الثانوية، في السنة الأخيرة، وأعارني أحد الزملاء ديوان شعر، وكنا نتبادل الكتب لندرة ما نحصل عليه بسبب ضيق ذات اليد، وبالمصادفة رأى أحد المدرسين السوريين هذا الديوان في يدي، فدعاني إليه، وفرحت أنه سيشجعني على قراءته، لا سيما أن صاحبه سوري، لكن الأمر كان بعكس ما توقعت، فقد انهال عليّ تقريعاً، وقال: هل ستقرأ ديوان هذا الكافر النجس المدعو (نزار قباني)؟؟
وبوحشية وغلظة وجفاف أخذ الديوان مني، وأعطاه لوكيل المدرسة، الذي أعاده إليّ، وقال: احتفظ به، ولا تأتي به إلى المدرسة مرة ثانية.
نحيت الكتاب من يدي وأخذت أحسب فارق الزمن بين الحادثتين، فوجدته ثلاثاً وأربعين سنة، أي خمسة عقود، لم تكف لتغيير الفكر الجامد وتقبل الإصلاح!! فإذا كان وكيل مدرسة الفلاح في جدة قد رأى كتاب (خواطر مصرحة) في يد محمد علي مغربي، وقرَّعه وطلب منه عدم قراءته، لأنه سيئ - على حد تعبيره - ولعلي أجد له العذر في ذلك الزمن.
فماذ نقول عندما يتكرر المشهد بعد هذا الأمد على يد مدرس رياضيات، درس وتعلم في إحدى بلاد التنوير (الشام)!! ولعل هذا التيار الصارم لم يغب عن وجدان الأدباء والشعراء عندما يوقعون مقالاتهم وقصائدهم بتواقيع مستعارة، تجنباً للحرج من الطرف الآخر، فكان العواد يوقع بعدد من التواقيع، منها (الأخطل الأصغر، والساحر العظيم) في مهاجاته للصديق الأول، الذي أصبح خصماً لدوداً فيما بعد، حمزة شحاتة، الذي اتخذ توقيع (الليل، والعاصفة) للرد على العواد، وكان فظاً متجاوزاً للياقة الأدبية، مع اعترافه بذلك، لكن عناده منعه من الاعتذار، عندما طلب منه عدد من الأدباء والوجهاء الاعتذار ولو بقصيدة واحدة، أما العواد فقد ختم معركته مع شحاتة بقصيدة (عتاب) وجهها لشحاتة، ونشرت في ديوانه (نحو كيان جديد)، وكان لكل منهما أنصار ومساعدون ومؤيدون، وأغلب تلك القصائد المقذعة كانت تخط باليد وتوزع على الناس في أماكن تجمعهم، وقد كانت من الفنية بمكان، مهما كان توجهها.
ولعل بدايات العواد كانت إثارة من شخصية أخرى لها الدور الكبير في حياته، وليس هذا الأمر بحدث في عالم الإبداع، فليس هناك من مبدع إلا وله شخصية مثيرة في بداية حياته، فقد أثر في أفكاره الحاج (قاسم زينل) مفكر من الهند، كان مثقفاً بثقافة عصره، ومن المعتدين بالشاعر البنغالي (رابندرانات طاغور) ولم يكن هذا الرجل الوحيد الذي أعجب باعتدال فكر طاغور، الذي هاجم العالم في كتاباته وأثر في الكثير منهم، خاصة في 1916 عندما نقد الفكر القائم على الحرب والدمار، وانتقد الأب الروحي للهند كلها (غاندي) لكن العواد اتخذ من هذا الفكر منطلقاً لم يتقيد به، مثل الآخرين، وإلا تحول إلى تقليدية المودودي والندوي، ومدرسة الأدب الإسلامي، أما التأثير الحقيقي، فكان من جهتين، الأولى: مدرسة المهجر (الشمالي والجنوبي) والمدرستين المصريتين (أبلو، والديوان).
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5703» ثم أرسلها إلى الكود 82244