التقاط الحالة وتمثل اللحظة
ما الذي يجعل عنوان (عمل ما) يقفز إلى ذهن الذات المبدعة، من بين آلاف العناوين المحتملة؟ هذا سؤال يتردد دائما. ألا يعني اختيار الأنصاري لعنوان (التوأمان)، أن هناك خلفية أو حالة، دفعت به إلى ذهن الكاتب؟ وهو أحد أفراد النخبة الواعية في ذلك الوقت، ولديه حساسية مرهفة لتمثل روح اللحظة وتمثيلها.
إن التقاط الحالة وتمثل اللحظة التاريخية، عملية معقدة، ولكنها مهمة في هذا السياق، فدائما يحدث أن نتوقع من الذات الواعية (أن ترد على حاضرها وتتكيف معه، لأنها ذلك الجزء من النفس الذي يعنى بصفة أساسية بأحداث لحظتها الراهنة) (ك. غ. يونغ، البنية النفسية عند الإنسان، ترجمة نهاد خياطة، اللاذقية: دار الحوار ط2 2000م، ص50). ولكن ما هي طبيعة تلك اللحظة، وما هو عنوان تلك الحالة؟
إذا عدنا لإيقاع الأحداث في تلك المرحلة من تاريخ البلاد، نجد أنه يتمثل فيما يمكن أن يسمى (حدوث أمر مهم كل سنتين) وعلى التوالي، وبالتبادل بين الحدث الثقافي والحدث السياسي:
* في عام 1345هـ كان العواد يطلق رصاصة الرحمة على الطرق (الذكرية) المنتشرة في مدينة جدة، بصدور كتاب (خواطر مصرحة)، وكانت الظروف مواتية في ذلك الوقت.
* في عام 1347هـ حسم الملك عبد العزيز معركة (السبلة) في الزلفي، وهزم المعارضين لتطوير الدولة، والمناوئين لانفتاحها على العالم الحديث.
* في عام 1349هـ صدرت (التوأمان) بصفتها (أول رواية صدرت بالحجاز) بل في الجزيرة العربية، وهزت قواعد راسخة في الثقافة المحافظة، مثل:
- ما ترك الأول للآخر شيئا.
- ولا مدخل للاحق.
- وهل بقي هناك (أول)؟
بعد آلاف المجلدات، والشروح وشروح الشروح، والتعليقات على التعليقات، والهوامش على الهوامش، والنحرير والبحر والعلامة والفهامة.
(إنها صدمة للراسخين في الفهم التقليدي بكل المقاييس، حتى ولو جاء خطابها الظاهري على مقاس ذوي الفهم السطحي) .
* في عام 1351هـ أعلن الملك عبد العزيز توحيد أقاليم الدولة المختلفة في دولة واحدة، هي المملكة العربية السعودية، تتويجا لتلك المرحلة ذات الإيقاع السريع، والمزدحمة بالأحداث السياسية والثقافية.
بمعنى أنه نشأ في تلك المرحلة نوع من التزامن والترابط والعلاقة الوثيقة - حتى وإن كانت غير معلنة - بين ما هو سياسي وما هو ثقافي، وكانت الخلاصة على النحو التالي:
تبلور نوع من التواطؤ السياسي والثقافي على (التوأمة) بين الخطابين الاتباعي والابتداعي لثلاثة أسباب موضوعية:
- السبب الأول: أنه لا يمكن توحيد الخطابين على طريقة توحيد الأقاليم الجغرافية.
- السبب الثاني: أن مرجعية كل منهما تختلف من حيث الجوهر عن مرجعية الخطاب الآخر، وتكاد تكون معاكسة لها تماما.
- السبب الثالث: الحاجة لكل من الخطابين، فالكيان الجديد يحتاج الأول على المستوى الداخلي، ويحتاج الثاني على كل المستويات، لأنه يتسق مع مفهوم الدولة بصفتها مفهوما حداثيا.
لقد كانت - حقا - مرحلة (توأمة) بين عدد من الثنائيات، مثل التوأمة بين السياسة والثقافة، أو بين سياسة نجد وثقافة الحجاز، وهو ما ذهب إليه في الغالب محمد شفيق مصطفى صاحب جريدة (الرياض) التي كانت تصدر في القاهرة، في ذلك الوقت، حين أشار إلى رواية (التوأمان) فور صدورها وركز على (ما يدل عليه عنوانها من موضوع قيم خطير) (صحيفة الرياض، القاهرة 12 شوال 1349هـ 2 مارس 1931م الصفحة الأخيرة)، وإن كانت هذه الدراسة ترى أن التوأمة (الأم) هي التي جمعت بين الخطابين الاتباعي والابتداعي، باعتبارها التوأمة الأساسية في هذا السياق، وهي ما زالت واضحة المعالم في خطابنا المحلي حتى اليوم، فالخطابان، حتى وإن كانا متعارضين في العمق، ولكن تجري دوما الموازنة بينهما، بل أصبحت هذه الموازنة ذاتها مناطا لممارسة السلطة، وتقيم السلطة شرعيتها على الموازنة بين الأصالة والمعاصرة (مع أن الأصالة ليست أصالة نقية، والمعاصرة ليست معاصرة تامة)، وفي هذه الهوامش يشتغل خطاب السرد.
والتقاط (التوأمان) للحالة وروح اللحظة، قد يفسر إطلاق وصف (الرواية النفيسة) عليها من معاصريها الذين اعتبروا أن هذه (الرواية فاتحة عهد مجيد) (السابق نفس الصفحة).
إن إنتاج الرواية في مجتمع ما يعني أن الصبغة المدنية بدأت تتبلور في نسيج بناء الدولة، أكثر من الصبغة الثيوقراطية. (للمزيد، انظر: مدخل إلى نظريات الرواية، بيير شارتيه، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، الدار البيضاء: دار توبقال 2001 م ص 13).
ومما يدل أيضا على قدرة الأنصاري، على تمثل الحالة العامة واللحظة الخاصة، ما ذكره من إلماح إلى (نهضة أمة اليابان) (المقدمة ص أ). ولم يكن ما يجري في اليابان في ذلك الوقت معروفا على نطاق واسع، مما يوحي بسعة اطلاعه، وقدرته على نوع من الرؤية الحاضرة والمستقبلية، حتى لما هو بعيد جدا عن حدود بلاده.