قبل أكثر من عام، أصدر الشاعر والناقد حامد بن عقيل كتابه الأول في سيرته الافتراضية، كان عنوان الكتاب الأول (مسيح)، ودون أي تصنيف للشكل الكتابي الذي اختاره لخروج كتابه، أضاف إلى سلسلته الافتراضية كتابا جديدا بعنوان (سبينوزا). فبعد إصداره لديوانين شعريين (قصيدتان للمغني - مرثيتان توغلان في دمي) 1999م، و(يوم الرَّب العظيم) 2005م، وبعد كتابه النقدي (فقه الفوضى- دراسة تأويلية) 2005م، جاءت محاولته الكتابية الجديدة خارج حدود التصنيف، وهو ما يقول عنه: (لا أفكر في شكل الكتابة أو التعبير الكتابي الذي يجب أن ألتزم به، سيرة افتراضية بجزأيها أسلوب تعبير خاص لا يعنيني تصنيفه بقدر ما يعنيني أن يكون قادرا على استيعاب ما أريد قوله).
في سبينوزا، الجزء الثاني من السيرة الافتراضية، يلمس القارئ جانباً من قراءات المؤلف، ويطالع المفكرين الأبرز في التأثير عليه. ففي كتابته عن نيتشة الذي يصفه بالمجنون الكبير يكتب عن الحكمة: (المجانين دائما هم حكماء مجتمع الخنوع، ذلك أنهم يخرجون بعقولهم عمّا أراد لها الفقه العام من انضباط تعيس للقيد، وخروج عما أراد لها فقه التسكين من قناعة هي في محصلتها كنزٌ لا يفنى، وكيف يفنى اللاشيء؟!.). ويختلط في كتابة كهذه العام مع الخاص: يكرر الصبي سؤاله البريء لجدته: (لجسدك رائحةٌ لا تغيب)؟، فتجيبه: (رائحة الريحان لا تذبل). وبعد أعوامٍ من الحنين، عندما يمرّ بصندوق ملابسها العتيق، تلفحه رائحة عبارتها الحنون، وفي كلّ مرّة يعرف ما لم يعرف من قبل عن الحكمة.
كما يكتب عن فاغنر، وعن سبينوزا. فلماذا اختار سبينوزا تحديدا ليكون عنوانا لهذا الجزء من سيرته الافتراضية؟، يجيب قائلاً: (المعرفة التي لا ترتهن لأطماع حامليها، حتى وإن لم تنتج فكرة جديدة، هي المعرفة الأكثر صدقا. بالنسبة لي، وبعيدا عن تأثير سبينوزا كفيلسوف في طريقة تفكيري، أراه الأقرب لتمثيل المعرفة الصادقة، أي ذات المنطلقات البريئة من الرغبة في تحقيق مجدٍ شخصي. ليس أسوأ من كاتب أو مفكرٍ يستخدم معارفه في تزييف الوعي وخيانة القراء الذين يثقون بما يكتب). ويضيف ابن عقيل: (أيضا، وعلى مستوى التأثير، أحب ما كتبه سبينوزا عن أهمية أن يكون المجال مفتوحا للتفلسف بحريّة. أن القضاء على الفلسفة يعني القضاء على العقل، وهذه الحرية هي ما أراها، كما قال سبينوزا، الضمانة الوحيدة لاستمرار حرية الفرد واستقلاليته، وليس العكس).
الكتاب المقسّم إلى أربعة أجزاء هي على التوالي: تيه، فاغنر، سبينوزا، شمال الروح. يأتي الجزء الأول منه أقرب إلى النصوص الشعرية، أما الجزء الثاني (فاغنر) فيأتي لتوظيف النص الشعري العامي في كتابة إبداعية تميل كثيرا إلى الشعرية، ثم جزء (سبينوزا) الذي يشبه الكتابة المقالية عن المعرفة: ربما لا يدري الكاتب أن (الحاجة إلى المعرفة وتحقيق الذات) ليست هي قمّة الهرم فحسب، إنها القمة والهاوية. تخيلوا ذلك، يهوي الكاتب ثم يهوي ثم يهوي إلى ما لا نهاية، بعد ذلك.. سيدرك أنه وقع في شصّ المعرفة وصار يتخبط. كل جديد، كالعلامة في النقد، تهدي إلى علامة.. وهذه الأخيرة تهدي إلى ما بعدها، وهناك، عندما يقرر مراجعة متاهته الهرمسية، يدرك أنه غادر حقيقته الأولى، وتشظت روحه. لم يعد العالم هو هو، كما لم يعد هو هو، وتغيرت الخطوات.
وأخيرا الجزء الرابع الذي يغلب عليه الطابع القصصي. فما الذي يجعل حامد بن عقيل يصنِّف (سبينوزا) الذي جاءت نصوصه متذبذبة بين الشعر والقصة القصيرة والمقالة على أنه سيرة افتراضية مع أنه مختلف بشكل واضح عن (مسيح) الذي يمكن اعتباره سيرة حقيقية؟. يقول مجيباً على ذلك: لا أدري إن كان مسيح سيرة حقيقة أم لا، لكنني على ثقة أنني أردت شيئا آخر. هناك علاقة وثيقة، في أذهان العامة، بين مفردة سيرة وبين التحولات الزمنية القابلة للتوثيق. لكن هذه التحولات، حين ترتبط بدالة الزمن فقط، تعطي معنى التاريخ الشخصي كفعل كتابي يتجه نحو نشر الأنا على الملأ بأسلوب تسويقي بحت. بالطبع، مفردة السيرة تحتاج هنا إلى إخضاع طوعي لمعناها القاموسي، وهو ما سيخرجها من حيز ضيّق إلى حيز واسع يعطي عدّة معان؛ من أهمها: الهيئة، الطريقة، المذهب، الحالة، السلوك. فلا تصبح السيرة مجرد أن يدوّن الكاتب تفاصيل حياته وأعماله، بل تتجه نحو تدوينه للراهن بوصفه حالة (هيئة) طريقة، وهو تدوين إبداعي يخرجها عن مجرد الحفر في الماضي الذاتي إلى تدوين الأنا الآن بكافة تجلياتها الفكرية والإبداعية. ولهذا، لن يكون من الملزم للكاتب أن يبلغ من الكبر عتيّا حتى يكون مؤهلاً لسرد أرشيفه الحياتي والإبداعي، بل سيصبح ملزماً له أن يرافق فعل السيرة مراحل متعددة من حياته فتغدو مراجعة ذاتية لكل مرحلة عمرية مر بها، مع كونها شاهداً على مرحلة اجتماعية وثقافية تتزامن مع وقت إنجاز الكاتب لسيرته. إن فعل كتابة السيرة فعل إبداعي قابل للكتابة في أي عصر وعلى يد أي كاتب بغض النظر عن المرحلة العمرية التي يكتب فيها، فرهانه هنا هو الإبداع وليس التسويق لذات قرب أفولها فبالغتْ في استعادة ماض قد لا يعني للقراء الكثير. وبما أنها كتابة إبداعية، فلا بأس من أن تنحاز إلى الشعرية حيناً، وإلى السرد حيناً آخر، أو حتى إلى المقالة للتعبير عن رؤية خاصة قد يناسب هذا الشكل الكتابي التعبير عنها أفضل مما سواه.
يشارك الدكتور حمود أبو طالب في كتابة جزء (فاغنر)، وفي الجزء الأخير (شمال الروح) نجد أسماء عديدة تشارك في الكتابة (هيلدا إسماعيل، طلق المرزوقي، أمل زاهد، أحمد محجوب، خلود سفر الحارثي، سوزان خواتمي)، وهي تجربة سبق أن خاضها حامد بن عقيل في كتابه السابق (مسيح)، ألا توحي هذه الطريقة بشيء من نرجسية؟. يجيب ابن عقيل: حين قررت كتابة (سيرة) شاركني كتاب كثيرون في كتابتها بذات الأسلوب، وهذا ما شجعني على تحويلها إلى كتاب. أردتُ في البداية أن يتحول إلى كتاب تفاعلي كما تمت كتابته على الشبكة العنكبوتية، لكن لم ينجح الأمر، وهذا ما جعلني أضيف كتابات الآخرين في قسم مستقل في الجزء الأول (مسيح)، نظراً لأهميتها في سياق الكتاب الذي تمت كتابته على الشبكة العنكبوتية ذات الطبيعة التفاعلية، ثم تم نقله إلى الورق.
اختلف الأمر قليلا في الكتاب الثاني (سبينوزا)، حيث حرصتُ على ضم الكتابات النقدية أو الانطباعية لكتّاب مهمين حول بعض نصوص القسم الرابع (شمال الروح)، وباستثناء كتابة الدكتور حمود أبو طالب لم يكن هناك مشاركة إبداعية لأي كاتب. أما أمر النرجسية فلا أظن أنني شغلتًُ نفسي به كثيراً. كان الأمر، ولا يزال بالنسبة لي، يتعلق بحرصي على التوفيق بين فضاء كتابي حديث وبين فضاء كتابي تقليدي.
سيرة افتراضية (مسيح)، ثم سيرة افتراضية (سبينوزا)، عبارة عن مقاربات شعرية لحياة الإنسان على الأرض. محاولة لتخفف من عبء الذاكرة، فهل هي مؤشر لإفلاس شعري ما؟، يقول حامد بن عقيل، مختتماً هذا الحوار: (أستطيع المغامرة بكتابة شكل جديد يستعصي على التصنيف، لكنني لا أستطيع امتهان الشعر في التعبير عن كل ما أريد قوله. لم أجد تعريفاً يقنعني بماهية الشعر، كما أنني لا أغامر بحصره في تعريف ما. أعلم يقيناً كيف يتواطأ الشاعر ومريدوه على إنتاج وقبول هذا الفن الخاص جدّا، خصوصاً في وجدان الإنسان العربي. حتى هذا التواطؤ لا يمنع من أن يكون الشعر ميداناً للتجريب الكتابي. إلا أنني أحرص على أن يكون للشعر طابعه الخاص من خلال المفردة الشعرية، الشِعر أداة تأمل تسعى إلى ثبات الزمن حتى يكتسب شرعية وجوده وتمايزه عن بقية الأشكال الأدبية، لكن هذا الثبات لا ينفي عنه قدرته على التعاطي مع السياقات المعرفية والجمالية للغة التي يُكتب بها. وربما كان الفرق بين السيرة الافتراضية وبين الشعر هو أن السيرة قادرة على مجاراة الحركة الزمنية للأحداث، تلك التي تفيض بها الذاكرة، وهذا البُعد الحركي لا يمكن أن يكون أحد مُحدّدات كتابة الشعر).