عندما تدلف إلى أمسية شعرية أو أدبية، أو عندما تكون قد انتهيت للتّوّ من إحدى الأمسيات، أو عندما تكون في إحدى ردهات النادي الأدبي، فلا بد - حتى - أنْ تفاجأ بشاعر شاب يُعْجِب ويُطْربُ بشخصيته الأدبية، وبخلقه وتعامله.. إنه الشاعر الجميل (عبدالمحسن بن سليمان الحقيل) ومن خلال اللقاء سيقدم إليك - وبحياء - مجموعته الشعرية الأولى (لا.. أحبك).
التي تشتمل على ست وعشرين قصيدة متنوعة ما بين التناظري والتفعيلي، وليس الملاحظ هنا هو التنوع فهو أمر مفروغ منه ومطلوب من الشاعر أنْ يتنوع في نفسه الشعري وأنْ ينوع في طريقة الأداء، وفي معمارية القصيدة وإنما المهم في المسألة الشعرية أن يكون الشاعر شاعراً حاضراً بتفوقه وتجليه بين ثنايا قصيدته وألا تتخلف شعريته وهو يكتب قصيدته ويقدمها لقرائه..
وأول ما يفاجئ المتلقي في هذه الباكورة الشعرية هو العنوان.. (لا.. أحبك)، هذا العنوان لا يمكن بحال أن يمنحك المقصود: فهناك احتمال أنَّ ما بعد (لا) ما هو إلا مدّ للصوت وتأكيد للنفي فيكون المقصود انعدام الحب..، ويمكن أن يكون الفراغ المنقط توقفاً لنفي ما هو ضد المعنى الموجود بمعنى (لا.. أنا أحبّك)..
وإشكالية هذه الدلالة لا تتوقف هنا.. بل إن المتلقي بعد أن يحسم أمره مع العنوان سوف يجد في داخل المجموعة قصيدتين: الأولى بعنوان (نعم أحبك)، والأخرى بعنوان (لا أحبك) التي ينهيها الشاعر بسطر شعري هكذا: (هل علمت الآن أني (....)).
إذا يبقى الخيار والاختيار لدى المتلقي ليعتقد بما يوحي إليه به ذوقه وقراءته. نخرج الآن نحن من سيمياء العنوان ودلالته وزئبقيته، وندلف إلى قصائد المجموعة، وإذا كان الكتاب يقرأ من عنوانه - كما يقال - فإن مجموعة (لا.. أحبك) تعطي انطباعاً أولياً بوجود شاعر جيد متكوّن يمتلك الأداة الشعرية الحقيقية المتمثلة في سلامة اللغة والتعبير والجملة الشعرية وصفاء الايقاع الشعري. يقول من قصيدة (نعم أحبك):
نعم أحبكِ.. ما ذنبي وقد علقت
بكِ الحياةُ.. فصار العمر لُقياك
نعم أحبك هل في الحبّ من خطأ
زيدي فديتُكِ في قلبي خطاياك..
كفّارة الحب موتي.. كلما اتّقدتْ
نار الفراق بقلب مذنب باكِ
كفّرت عن ذنبنا قبل الخضوع له
فهل رأيت.. كما يلقاه مضناكِ
يا حلوتي: كل أبياتي سَعَت ولهاً
إليك أنت وفيها بعضُ ريّاكِ
في هذا النص تتبين أرضية الشاعر الشاب الفنية والمعنوية التي يقف عليها، إنها ذلك المزيج من قراءاته في الموروث الشعري قديمه وحديثه، ثم تتبين كذلك قدرته على الصياغة الشعرية الغنائية التي ما زال يعيش في مباهجها وتحت سطوتها، وهو في ذلك ليس بدعاً من الشعراء الذين عبَّروا عن ذلك التَّماهي اللذيذ بالصّياغات الرومانسية العذبة..
كذلك نجد فتنة الشاعر بأسلوب (السهل الممتنع) فهو ينسج على منواله في قصيدة (بشارة).. يقول:
جاءت بكل إثارهْ
تقول: عندي بشارهْ
خمّنْ فلستُ إليها..
أشير لو بعبارهْ..
وفي يديها سوارٌ
وفي السّوار إشارهْ
وقد علاها سرور
ما ضل حتماً مسارهْ
والورد في وجنتيها
وفي العيون أَمَارهْ
ولفظها جاء أرقى
من لفظها.. بجدارهْ..
وشعرها كان أبهى
بالقصة المختارهْ
وثار قلبي بحبي
والخوف شدَّ إسارهْ..
وبقية الحكاية أو هذه القصة الشعرية، أو (البشارة) في المجموعة لمن أراد أن يكمل فصولها، بعد أنْ اتضحت الإشارةُ أو الشاهد على ما سبق من امتلاك الشاعر لأداته الشعرية بشكل يبعث على التفاؤل.
ومن قصيدة (احتضار) يقول:
(قولي لها: إني سئمت حياتي
ونسيت نفسي في تغرُّب ذاتي
في وحدتي كل الطموح عن المنى
فخطى الشّتات تمكنت بشتاتي
قولي لها إن الفراق أحاطنا
بالموت.. تلكم غربة الأمواتِ
أنا إن تذكرتُ اللقاء بكيتُه
وإذا نسيتُ بكيتُ كلَّ حياتي
قولي لها: إني رحلتُ وها أنا
أبكي الفقيد بلاهبِ العَبراتِ..
كذلك يوحي هذا النصّ بامتلاك الشاعر أدواته، وبوقوفه على بوابة الإبداع، هو يلج إليها بالثقة المطلوبة التي لن تخونه في مستقبل عطائه.. والدليل على ذلك ما يكتبه بنسق التفعيلة، وهو لم يخرج أساساً على عمود الشعر، يقول من قصيدة: (ولها عنوان):
ما أصعب أن تهوى امرأةً
ولها عنوان..
عنوان ليس له معنى
سكنُ في الغربة يغريها..
بيت في الضوء
في أحلك جزء في الضوء..
وهناك الوحدة تغمرها
وهناك الوهم
وتحس بأن الوهم أنا
أفهمت الأمر؟.
................
امرأة ولها عنوان
تتحدى لغز الألوان..
تعبث بالشاعر في دعة
تكتبه ألماً..
يكتبها شعراً
يكتبها كالإيمان..
يتساءل: ما معنى العنوان
أن تبحث عنها..
بين الضوء وبين الضّوء..
في أحلك جزء في الصورة!!
ففي هذه المقطوعة التي يمكن اعتبارها قراءةً مضادة لقصيدة (نزار قباني) (قارئة الفنجان)، فالشاعر الشاب هنا يمتلك تجربته المغايرة ويمتلك طريقته في التناول ويدرك كيفية التقاطع مع قصيدة أنموذجه الذي سَبَقَه بعقود عدة، فإذا كان شاعره القديم يقول: (إنّ الصعوبة في أن تهوى امرأة ليس لها عنوان) فإن الشاعر الشاب يقلب تلك المعادلة العادية ويسجل أنّ الصعوبة عكس ذلك تكمن في العناوين الواضحة والأضواء الصارخة التي عبَّر عنها بتضاد عجيب؛ حيث يرى الشعر أن قمة الوضوح لديه تكمن في قمة الحلكة والسواد (في أحلك جزء في الضوء)..
وهكذا يشير الشاعر الشاب مبكراً إلى فتنته في التجاوز والتشظي والمغايرة، وتلك دلالة قوية جداً على وقوفه - كما أسلفت - وبجدية على بوابة الإبداع الحقيقي وهو ما ننتظره منه..
ولعل قصيدته التي ختم بها مجموعته، وهي بعنوان (صفحات) تُشير بقوة كذلك إلى توجه الشاعر صوب الشعرية الكامنة في النص وليس في خصب الإيقاع وجلجلة الخطابية يقول فيها:
وحدي هنا..
أسير في الطريق
أقلّب الشوارع
صفحة فصفحة
أقلب الشوارع..
فصفحة مقطوعة..
وصفحة محروقة
وصفحة كانت بلا حروف
لا شيء في الطريق
في آخر الطريق
إشارة صغيرة
حكت لي المسيرة..
كأنها مِشنقة
مقْصلة كبيرة..
الحارة الأخيرة..
كانت بلا أضواء
الشارع الأخير
كان بلا أضواء
الصفحة الأخيرة
كانت هناك وردتان
إحداهما الحياة..
أخراهما الحياة
وفيهما النجاة
لا شيء دون الوردتين
يقبل البقاء..
كلتاهما النقاء
لولاهما..
لا شيء في الطريقْ
في هذا النص قدم الشاعر الدليل على تماهيه من تجارب شعراء القصيدة المعاصرة في الوطن العربي.. فلا ريب أن مثل هذا النَّفس في هذه القصيدة، ومثل طريقة الأداء فيها يذكرنا بكثير من كبار الشعراء الذين أسّسوا قبلاً للشعرية المعاصرة التي ازدهرت في الستينيات والسبعينيات وما بعدها، الأمر الذي يوحي بإيجابية تفاعل الشاعر الشاب (عبدالمحسن الحقيل) مع التجارب الشعرية الكبيرة، كذلك يوحي بتوجُّهه إلى شعرية (قصيدة النثر) في مرحلة مقبلة.. ومن هنا نحن في انتظاره وفي انتظار ما سيحققه في فضاء الإبداع الشعري مع كثيرٍ من مجايليه ممن يحملون جمرة الإبداع وشُعلة التفوق في القصيدة المعاصرة..).