من الرائع والمفرح أن تخصص الجزيرة الثقافية ملفاً خاصاً بعالم جليل تتلمذنا على يديه نحن طلاب جامعة الملك سعود في الرياض.
لقد قدم لنا الدكتور عبدالوهاب المسيري مادة علمية راقية لم نعتد عليها.
كانت محاضراته من القيمة بحيث إن لا أحد من الطلاب يتغيب عن مادته رغم أنه ببساطة لا يقرأ أسماء الطلاب الحاضرين في بداية محاضرته كما يفعل زملاؤه من الأكاديميين الرسميين الذين اهتموا بالشكل فغاب المضمون.
كان الدكتور المسيري يستخدم طريقة رائعة في جذب طلابه تعتمد على تقديم مادته العلمية انطلاقاً من خبراتهم التي يرونها ويعيشونها فيحرص الطلاب تبعاً لذلك على الاستفادة من مثل هذه الفرص النادرة التي يقدمها الدكتور المسيري لكي يحاولوا البحث في علاج لعشرات القضايا المثيرة للجدل والتي يواجهونها في حياتهم، لهذا السبب لا يغيب طلاب المسيري عن محاضراته وإن حدث النادر وغاب أحدهم فهو يعذره لأنه غاب لظروف خارجة عن إرادته.
كم كان حزن الواحد منا كبيراً عندما يرفض الحاسب الآلي تسجيل مقرر يقوم بتدريسه المسيري بسبب امتلاء الشعب التي يدرّسها بالطلاب بينما الشعب الأخرى التي يقوم بتدريسها أساتذة آخرون خالية وموحشة تملؤها الكوابيس والأشباح!
ازداد حزننا مع رحيل أستاذنا الكبير عن الجامعة وكنا نتبادل الامتعاض والدهشة في عدم تمسك الجامعة بمثل هذه القدرات النادرة التي يحتاجها الطلاب وتحتاجها الجامعة نفسها من أجل أن تحتل مكانة متقدمة بين الجامعات العالمية الأخرى!
عرفنا صدق انفعالاتنا عندما عرفنا بعد ذلك الإنتاج الثقافي المذهل والذي كان يعمل عليه أثناء تدريسنا وهو مشروعه الضخم والكبير والمهم، وأعني بذلك موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية والذي يقع في ثمانية مجلدات.
ما زلنا نحن طلابه نتبادل الرسائل القصيرة عندما يظهر هذا الأستاذ الكبير في مختلف القنوات الفضائية لكي نسمع مجدداً له ونعيش من جديد لحظات الإثارة والوعي والاستنارة التي كانت تحدثها محاضراته.
عرفنا قصصه المثيرة ومواقفه النادرة التي عاشها في الولايات المتحدة، وعن قضايا البروليتاريا والبرجوازية والليبرالية التي لا تنتهي.
كان يتحدث إلينا عن مشاهداته وخبراته الكثيرة بدءاً من ملاحظاته الإسلامية على خطب الجمعة التي يسمعها في مساجد الرياض وانتهاءً بانتقاداته للخطابات السياسية التي تنطلق من البيت الأبيض.
عرفنا أشياء مثيرة كثيرة بعد ذلك عن هذا الأستاذ الكبير، منها على سبيل المثال لا الحصر، أن فرانسيس فوكوياما لم يكن هو أول من كتب عن نهاية التاريخ، بل إن هناك من سبقه إلى ذلك بأكثر من خمس عشرة سنة، لكن كان لكتاب فوكويوما هذا صدى ثقافي كبير في شتى أنحاء العالم وترجم إلى عدة لغات عالمية، ولم يكن ذلك بسبب حداثة الفكرة وجدية الطرح وإنما بسبب القوة الإعلامية الكبيرة المسيطرة على العالم والتي روجت لمثل هذه الأفكار التي تصب في الفلسفة الغربية الرأسمالية.
لم يكن ذلك الكاتب الذي سبق فوكوياما إلا الأستاذ الدكتور عبدالوهاب المسيري نفسه، المفكر الإسلامي الكبير الذي يقدم فكرا راقيا ومادة علمية جادة قلّ أن تجدها بين المفكرين في العالم وليس في العالم الإسلامي فقط، حيث أصدر كتاب (نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بيئة الفكر اليهودي) في عام 1973م لكنه قوبل بالصمت وذلك يعود لعدة أسباب يذكرها المسيري نفسه وهي أولاً ما يتعلق بالعقدة تجاه الغرب، إذ إن فوكوياما يكتب باللغة الإنجليزية وينتمي إلى نفس العالم الغربي ويروج أفكاراً غربية تخدم الاثنين معاً، لهذا السبب تجد المتلقي الضعيف عادة يقبل كل ما يأتي من الغرب على أنه حقيقة لا تقبل النقاش.
ثانياً، التصنيف الذي فرّق بين الكتابين وتبنّاه الإعلام الغربي كان يعتمد على أساس الموضوع والذي تناول فيه المسيري الفكر الصهيوني، بينما كان عند فوكويوما الرؤيا الشاملة والتطور التاريخي للعالم بشكل كامل.
وهذه الرؤية لكتاب المسيري قاصرة وتفتقد إلى الموضوعية، لأن القراءة الموضوعية من وجهة نظر فلسفية لكتاب المسيري تبين أنه يقدم رؤية شاملة وكلية تهم العالم أجمع.
الأفكار والرؤى التي يقدمها المسيري في كتابه آنف الذكر تختلف تماماً مع ما يقدمه فوكوياما رغم تشابه موضوعهما، إذ إن هذا الأخير يرى أن الديموقراطية الليبرالية تمثل نقطة النهاية في التطور الأيدولوجي للإنسانية والصورة النهائية لنظام الحكم البشري وبالتالي فهي تمثل الإنسان الأخير، أي بعبارة أخرى يقول بانتصار الفلسفة الليبرالية الديموقراطية المنتشرة في الغرب، بينما يرى المسيري عكس ذلك فهو يرى أن نهاية التاريخ هي نهاية الظاهرة الإنسانية التي تعني هزيمة الإنسان نفسه وليس انتصاره.
يرى المسيري عدم صلاحية الليبرالية الغربية كفلسفة يجب أن تطبقها المجتمعات لأنها فلسفة داروينية معادية لله، ثم للإنسان والطبيعة، ويعتقد فيالوقت نفسه بوجود فلسفة إسلامية أقوى من ذلك بكثير ومنفصلة عن الاستهلاك المادي ومنفصلة عن تصاعد معدلات التقدم كما هي مطروحة في الحداثة الغربية.
إذن، لم يكن طرح فكرة نهاية التاريخ بجديد على الساحة الفكرية العالمية إذ إن فوكوياما نفسه أصابته الدهشة عندما علم بكتاب المسيري عن نهاية التاريخ وطلب بمقابلته شخصياً، والمثير للتساؤل أيضاً هو أن بعض المفكرين الذين ناقشوا كتاب فوكوياماكا وكانوا يعرفون كتاب المسيري لم يتجرؤوا على ذكر ذلك في مناقشاتهم ولعل ذلك يعود إلى نفس الأسباب التي ذكرها المسيري نفسه والمتمثلة بما يعرف بعقدة الغرب والموضوع الذي كان يتناول الفكر اليهودي.
الاستماع إلى الدكتور المسيري وهو يتحدث فرصة نادرة لكل إنسان يريد أن يجرب لحظة الاستنارة النادرة التي يعيشها المبدعون للحظات وجيزة!